| علاء حلبي
كسرت دمشق صمتها على رسائل «الغزَل» الآتية إليها تِباعاً من جانب أنقرة، مُعلِنةً من على منبر موسكو، التي تخوض جنباً إلى جنِب طهران، وساطة صعبة بين الجارَين التركي والسوري، أنها لا تُمانع عودة العلاقات مع تركيا على أساس متين وواضح، يضْمن لها استعادة سيطرتها على كامل أراضيها، ويمهّد لبدء حوار سوري – سوري حقيقي. وعلى رغم الاندفاعة الديبلوماسية والإعلامية التي تُظهرها تركيا نحو سوريا، إلّا أن مسار التطبيع والذي تتولّى إدارتَه حالياً الجهات الاستخبارية في كلا البلدَين، يبدو أنه سيستغرق وقتاً، ما لم تُبادر أنقرة إلى خطوات دراماتيكية، تستطيع من خلالها تسريع هذا المسار، الذي يبدو الاستثمار فيه أولوية بالنسبة لرجب طيب إردوغان
في أعقاب اجتماع طويل في موسكو، أوّل من أمس، خرج وزير الخارجية السوري فيصل المقداد، ونظيره الروسي سيرغي لافروف، بتصريحات متوافقة تَركّزت حول قضيّتَي اللاجئين السوريين والوجود الأميركي في سوريا. والعنوان الأخير، بما يُرافقه من تشديد على ضرورة خروج القوّات الأميركية كشرط لا بدّ منه لحلّ الأزمة السورية، بات بمثابة العمود الفقري لجهود الدول الضامنة لـ«مسار أستانا» (روسيا وإيران وتركيا)، إضافة إلى تشكيله أرضيّة مناسبة لفتح الأبواب المغلَقة بين أنقرة ودمشق. من هنا، أعاد الوزيران التذكير بالدور التخريبي للقوّات الأميركية التي تستولي على معظم المناطق النفطية السورية، فضلاً عن دعمها المشروع الانفصالي الكردي، الأمر الذي يمثّل أحد أبرز معوّقات الوصول إلى تسوية سياسية وفق قرارات الأمم المتحدة، فضلاً عن تهديده وحدة الأراضي السورية، وعرقلته عملية عودة اللاجئين إلى بيوتهم جرّاء الضغوط المعيشية والاقتصادية التي تُسلّطها واشنطن على دمشق. وينبئ هذا الموقف، وقبْله تصريحات الرئيس التركي رجب طيب إردوغان المُناهضة لسياسات الولايات المتحدة، بوجود توافق مبدئي بين تركيا وسوريا يمكن الانطلاق منه نحو محادثات سياسية، تعمل على تطوير تلك التي تخوضها حالياً أجهزة استخبارية سورية وتركية، وفقاً لما أعلنته أنقرة.
وفي ما يمكن اعتباره أوّل تصريح سوري رسمي بهذا الخصوص، بعد فترة صمت طويلة، يبدو أنها كانت متعمَّدة، نفى المقداد، في ردّه على الصحافيين، وجود شروط لتطبيع العلاقات، مستدركاً بأن ثمّة قضايا جوهرية تجب معالجتها «على أساس احترام سيادة الدول»، مضيفاً إن أوّل الاستحقاقات الماثلة أمام البلدَين «إنهاء الاحتلال، ووقف دعم الإرهاب، وعدم التدخُّل في الشؤون الداخلية، وحلّ مشكلات المياه». وإذ جدّد التأكيد أن دمشق لا تثق «بِمَن يرعى الإرهاب ويدعمه»، فقد اعتبر أنه «عندما نتوصّل إلى مِثل هذا الحل، سيكون ذلك في مصلحة سوريا وتركيا، وسيشكّل مقدّمة لإعادة العلاقات إلى ما كانت عليه قبل بدء الحرب». ويرسم كلام المقداد معالم واضحة لِما تتطلّع إليه سوريا، سواء لناحية إنهاء الوجود العسكري التركي على أراضيها، أو لجهة وقْف دعم أنقرة للمجموعات المعارِضة، والذي ترى دمشق أنه يفرّغ مشروع «الحلّ السوري» من محتواه. والظاهر أن سوريا تلْقى دعماً، في رؤيتها تلك، من حليفَيها الروسي والإيراني، ولا سيما في ظلّ رفض الأخيرَين المتواصل لأيّ هجوم عسكري تركي جديد على مناطق سوريّة، وهو ما عبّر عنه صراحة لافروف في المؤتمر نفسه، مُذكّراً بوجود اتفاقات بين دمشق وأنقرة (اتفاقية أضنة الأمنية المُوقَّعة عام 1998) يمكن من خلالها إزالة المخاوف الأمنية التركية وفق طرق دبلوماسية.
الجهود الروسية والإيرانية استطاعت، حتى الآن، فتح كوّة يتمّ من خلالها إجراء مباحثات أمنية متواصلة
بالنتيجة، يمكن تلخيص الوضع القائم حالياً بأنه بداية لانعطافة تركية نحو سوريا، تستعجل أنقرة تحقيق مكاسب من خلالها، سواء في صورة إيجاد حلّ لمعضلة اللاجئين، أو عبر حصْد مكاسب ميدانية وسياسية يمكن إردوغان صرفْها في السباق الانتخابي الرئاسي في تركيا، والذي سيشتدّ مع اقتراب موعده في حزيران من العام المقبل. في المقابل، تريد دمشق خريطة طريق واضحة، تضْمن استعادة سيطرتها على جميع أنحاء البلاد، وتَحوُّل تركيا من طرف في الصراع إلى عنصر مساعِد في الحلّ. وكلا المطلبَين يمثّلان جزءاً من مسار طويل يحتاج إلى توافقات على نقاط عديدة متداخلة ومتشابكة، في ظلّ الوضع المعقّد في الشمال السوري، حيث تُسيطر أنقرة من خلال الفصائل التابعة لها على ريفَي حلب والرقة، في وقت تتفرّد فيه «هيئة تحرير الشام» (جبهة النصرة)، والتي باتت تابعة لتركيا أيضاً، بالسيطرة على إدلب التي تشكّل أكبر معاقل الجماعات «الجهادية».
وأمام المعادلة الميدانية والسياسية وحتى الاقتصادية (بالنظر إلى الضغوط المتزايدة على أنقرة، ورغبتها في أداء دور أكبر في مشاريع تتعلّق بالطاقة في المنطقة، والظروف التي يجب تَوافرها لضمان عودة اللاجئين السوريين)، يبدو أن الجهود الروسية والإيرانية استطاعت، حتى الآن، فتح كوّة يتمّ من خلالها إجراء مباحثات أمنية متواصلة بين سوريا وتركيا، تستهدف إيجاد حلول للقضايا الميدانية بشكل متسلسل، وتمهيد الأرضيّة للانتقال إلى العمل السياسي. ويعني ذلك أن مسار التطبيع سيستغرق وقتاً طويلاً، ما لم تُبادر أنقرة، الراغبة في تسريع وتيرته، إلى ترجمة اندفاعها الدبلوماسي بخطوات عملياتية مماثلة على الأرض.
سيرياهوم نيوز3 – الأخبار