آخر الأخبار
الرئيسية » كتاب وآراء » ما معنى هذه المناورات التركية الجديدة إزاء سورية؟

ما معنى هذه المناورات التركية الجديدة إزاء سورية؟

د. عبد الحميد فجر سلوم

بعد قمّة طهران التي جمعت رؤساء إيران وروسيا وتركيا يوم 19 تموز/يوليو 2022، انعقدت قِمة بين الرئيس الروسي بوتين، والتركي أردوغان في سوتشي يوم 5 آب/أغسطس 2022، أي بعد سبعة عشر يوما فقط..

بعكسِ قمة طهران التي انتهت بأجواء مشحونة بخصوص سورية بين إيران وروسيا من طرف (إن صحّ القول) وتركيا من طرف آخر، فقد كانت قمة سوتشي موضع تفاؤل بين الرئيسين الروسي والتركي.. وقال عنها أردوغان أنها “ستجلب أجواء الارتياح إلى المنطقة” ولكنه لم يوضِّح لنا كَيف، إلّا أنهُ يُفهَم من ذلك أنّ هناك تفاهمات خاصّة تمّ التوصُّل إليها بين بوتين واردوغان، وتصبُّ في مصلحة تركيا..

فماذا تغيّر؟.

الرئيس بوتين هو من طلبَ عقد اللقاء مع الرئيس التركي في سوتشي.. فقد شعرَ أن خروج أردوغان غيرُ راضٍ من قمّة طهران، رُبّما سينعكس سلبا على روسيا في أوكرانيا.. فأردوغان سريع التقلُّب، وقد ينقلب موقفهُ إزاء روسيا بِما لا يُرضيها إطلاقا.. فهو اليوم يمسك العصا بالمنتصف.. إنهُ ضد العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، ومع توسيع حلف الناتو، ولا يعتبر ذلك خطرا على روسيا، ولكنه بالمقابل لم يمضي مع الناتو والغرب في تطبيق العقوبات ضد روسيا، ولم تتأثر علاقات بلاده بروسيا، بل على العكس استفاد جدّا من الوضع القائم والتوتر بين الغرب وروسيا، وتعزّزت علاقات بلاده التجارية والاقتصادية، القوية بالأساس، مع موسكو، ولعِبَ دور الوساطة بين موسكو وكييف، وكان شريكا أساسا في اتفاق تصدير الحبوب من موانئ أوكرانيا.. وكان، وما زال، حريصا على العلاقات الجيدة مع كل أطراف الحرب.. ولذلك كان الوسيط المقبول من كلٍّ من موسكو وكييف..

العلاقات التجارية والاقتصادية الضخمة بين موسكو وأنقرة، تجعل الرئيس بوتين يُداري أردوغان، وخاصّة في هذا الزمن، لاسيما أن تركيا هي الدولة الوحيدة من دول الناتو التي ما تزال تتعامل مع روسيا، وكأنّ شيئا لم يحصل.. ولا أُبالغُ إن قلت، أن بوتين على استعداد لِمُداراة أردوغان حتى لو كان على حساب سورية، فالدول مصالح وليست جمعيات خيرية، وكما قال بوتين نفسه ذات مرّة: لا صداقة بين الدول وإنما مصالح..

**

في العام الفائت 2021 بلغ حجم التبادُل التجاري بين روسيا وتركيا 33 مليار دولار.. ويتطلّع البَلدان لِرفعها إلى 100 مليار دولار في الأعوام القادمة من خلال حُزمة اتفاقيات بين البَلَدين..

ونفّذت روسيا مجموعة مشاريع ضخمة في تركيا، أبرزها خط أنابيب السيل التركي لِنقلِ الغاز الطبيعي الروسي إلى أوروبا عبر الأراضي التركية.. وهذا يعودُ على تركيا بعائدات كبيرة..

وكذلك يتمُّ تنفيذ مشروع (آق قويو) للطاقة النووية السلمية في مرسين، ومصنع شاحنات الغاز.. بينما تبقى تركيا المقصد الرئيس للسوّاح الروس..

**

في لقاء سوتشي الأخير، تطرّق البيان الختامي إلى سورية في ثلاث جُمَل مُكرّرة عشرات المرّات، وهي دفعُ العملية السياسية من أجل الوصول إلى حل دائم في البلاد، والحرص على وحدة وسلامة الأراضي السورية، والعمل على مكافحة جميع المنظمات الإرهابية..

وطبعا الإرهاب هنا بالنسبة لتركيا هي التنظيمات الكُردية المعروفة، وليست التنظيمات المتطرفة في إدلب، فهذه بالنسبة لأنقرة مُعارَضة مُعتدِلة..

**

وأبرز ما تم الاتفاق عليه هو أن تدفع أنقرة جزءا من ثمن الغاز الطبيعي لِموسكو بعملة الروبل الروسية.. وهذا من مصلحة انقرة التي تجني كل عام مبالغ ضخمة من عائدات السياحة الروسية بالروبل..

**

تغيير الموقف التركي من دمشق لا أراهُ سوى مناورات سياسية فرضتها ثلاث عوامل:

الأول: الضغوطات الروسية، والتي تصبُّ أخيرا في مصلحة روسيا.. وليس بالضرورة كل ما يخدم روسيا يخدم سورية..

الثاني: الموقف المُطالِب لكليهما بانسحاب القوات الأمريكية من شمال سورية.. وهنا تختلف الأسباب.. فتركيا تريد انسحاب القوات الأمريكية لأنها هي من تدعم قوات سورية الديمقراطية التي ترى تركيا بها تنظيمات إرهابية تهدد أمن تركيا القومي..

بينما روسيا تريد انسحاب أمريكا لأن وجودها بالأساس غير شرعي، ومُنافِس للوجود الروسي..

الثالث: وهذا الأبرز، وهو الهاجس الذي يعيشهُ أردوغان من الانتخابات الرئاسية التركية العام القادم، وخشيته من الخسارة وفوز مرشّح المُعارضَة..

ولذلك لجأ أردوغان ومنذ فترة من الزمن، إلى نزعِ كافة الأوراق التي يمكن أن تستخدمها المعارضة ضدّهُ في سبيل إضعافهِ شعبيا..

أي عاد إلى نظرية أحمد داوود أوغلو، رئيس الوزراء ووزير الخارجية السابق المعروف بـِ (خيار الِصفر) أي تصفير كافة مشاكل تركيا في المحيط الإقليمي.. والاستفادة من الإرث التُركي العثماني في علاقات تركيا الخارجية، ومن الموقع الجيوــ سياسي لتركيا.. وهذا ما عبّر عنهُ في كلمته أمام حفل تخريج طلاب ضباط وصف ضباط من أكاديمية الدرك يوم الإثنين 22/8/2022 ..

وهذا سينزع من المُعارضة كافة الأوراق التي قد تستغلها ضدّهُ واتهامهِ بالفشل في سياساته الخارجية.. ومن هنا جاءت مناوراتهِ سابقا مع دولة الإمارات ومع السعودية ومع مصر ومع إسرائيل، واليوم مع سورية.. وكذلك مساعيه لإعادة مليون لاجئ سوري، كي يضع حدّأ لاستغلال المُعارَضة لورقة اللاجئين في وجهه..

**

أيّ علاقة تقارُب مع سورية ستكون على حساب مصالح سورية ما لم ينسحب أردوغان أولا من كافة الأراضي السورية التي يحتلها وتبلغ مساحتها 8830 كم2 .. أي يزيد عمّا تحتلهُ إسرائيل بأكثر من سبع مرّات ونصف..

**

أردوغان غير صادق حينما يقول أنه لا أطماعا له في سورية.. وأنه حريصا على وحدة تراب الأراضي السورية.. ولو كان كذلك لما اتّبع سياسة التتريك في كافة المناطق التي يحتلها، وأضحَت وكأنها مناطق في قلب تركيا لِجهة اللغة التركية والهويات التركية والمناهج التركية والأسماء التركية والعِملة التركية والمدارس والجامعات التركية وأسماء الشوارع والساحات التركية.. الخ.. تتريك بالكامل كما فعلوا في لواء اسكندرون بعد سلخهِ عن سورية الأُم بالتآمر مع فرنسا عام 1939 ، وهذا يعني ببساطة المُقدِّمة لقضمِ هذه الأراضي..

**

وعلينا أن نُدرك أنه بموجب معاهدة (سيفر) عام 1920 التي وقعتها الدولة العثمانية مع الحُلفاء المنتصرون في الحرب العالمية الأولى، تمّ تعيين الحدود السورية ــ التركية بدءاً من بلدة (كاراتاش) شمال غرب خليج اسكندرون على البحر المتوسط، وعلى خط طول مدينة أضنَة ثم يتّجه الخط حتى بلدة جيهان، ثمّ يتّجه شرقا بحيث يضمُّ مدُن عنتاب وأورفا وماردين وجزيرة ابن عمر، ويكون خط الحدود من الشمال الشرقي عند التقاء نهر (قره صو) مع نهر دجلة، ثم يسير خط الحدود بشكل مستقيم مع نهر دجلة حتى دخول الأراضي العراقية..

ولكن بعد رفض المقاومَة العسكرية التركية بقيادة مصطفى كما أتاتورك لذلك، قامت باريس بِعقدِ (اتفاقية أنقرة) في تشرين أول عام 1921، وتنازلت بموجبها لتركيا عن 18 ألف كيلو متر مربّع للجانب التركي من الأراضي السورية..

وتبقَى بالقانون الدول حدود سورية هي تلك المرسومة في معاهدة سيفر، وحتى يمكن رفع دعوى قضائية أمام محكمة العدل الدولية بهذا الشأن.. طبعا تركيا سترفض ذلك، ولكن حتى ولو رفضت، فإن مُجرد إثارة هذه القضية إنما يبعثُ برسالةٍ قوية لتركيا أن السوريين لن ينسوا حدود بلدهم الأصلية مهما طال الزمن، وأن تركيا دولة مُحتلّة لأراضٍ سوريةٍ شاسعة..

**

 وجميعنا نعرف أنه خلال الأزمة السورية منذ عام 2011 فقد استغلّت تركيا الوضع، وسيطرت على أراضٍ سورية عبر اتفاقات مع موسكو، في خط جرابلس ــ أعزاز، عام 2016 مقابل خروج المسلحين من شرق حلب.. ومن ثمّ السيطرة على منطقة عفرين عام 2018 ، مقابل خروج المسلحين من الغوطة.. وفي عام 2019 كان هناك غض بصر روسي وأمريكي عن السيطرة التركية على خط تل أبيض ــ رأس العين..

**

تركيا، وباعتقادي، وحسب قراءتي للواقع، لن تنسحب من شمال سورية حتى تنسحب من شمال قبرص.. أو حتى تنسحب روسيا من إقليم دونباس في شرق أوكرانيا.. وقالها أردوغان بالماضي لن ننسحب من سورية حتى ينسحب الجميع (أي أمريكا وروسيا وإيران).. وأستطيع القول أنه ولا واحدا من هؤلاء يضعُ في حساباته الانسحاب من سورية.. وهذا ما يبدو في هذا الزمن، أما ماذا قد يحصل في الزمن القادم، فعِلمهُ عند الله..

**

دعوة أردوغان المُعارضَة للحوار مع الحكومة السورية إنما يخدم مصالح أنقرة قبل أي طرف آخر.. فأردوغان ضدّ أي فكرة تسمح بإقامة كيان كردي شرق الفرات حتى لو كان إدارة ذاتية بصلاحيات محدودة وفي إطار الدولة السورية والسيادة السورية، فهو يخشى ذلك، ويخشى من دمج قوات سورية الديمقراطية في الجيش السوري لدى أي تسوية مستقبلية لمناطق شرق الفرات، إذ أنهُ يعتبر هذه القوات إرهابية ومعادية لتركيا وسيكون خطرها كبيرا في حالِ دمجها بالجيش السوري.. وهذه فكرة طُرِحت سابقا روسيا وأمريكيا، ولذلك السبيل الوحيد أمامهُ لِنسفِ هذه الفكرة، هي في حثِّ المُعارضَة على الحوار مع حكومة دمشق، وقطعِ الطريق على أي توجهات أخرى.. ومن هنا جاء حرصهِ اليوم على الحوار مع دمشق، ودون شروط مُسبَقة..

**

أردوغان ووزير خارجيته (جاويش أوغلو) يتذاكيان اليوم على دمشق.. ولكن اللعبة مكشوفة.. فهم يشجِّعون دمشق ضد منطقة الإدارة الذاتية الكُردية، ويعِدون بالدّعم السياسي، لأنهم يُدركون أن هذه المنطقة هي تحت المظلِّة الأمريكية، وهُم لا يجرؤون على اقتحامها خشية من أمريكا، ولذلك يدفعون بدمشق للقيام بهذا الدور نيابة عنهم.. وكأنّ دمشق ينقصها في هذه الأيام مواجهَة عسكرية مع أمريكا..

**

الخلافات مع تركيا كبيرة جدا، وحلّها صعبٌ جدّا طالما تركيا مُتمسكة باحتلالها، ودعمها للتنظيمات المتطرفة في إدلب، والمُصنّفة إرهابية بمعايير الأمم المتحدة.. وكافة اللقاءات الدبلوماسية ليست أكثر من طرح وجهات نظر، وجسٌّ للنبض، وتبرئة ذمّة، ولكن سيبقى بالنتيجة كل طرف متمسكٌ بموقفهِ، فمن غير المعقول أن تتنازل دمشق عن مطالبها حتى لو أغضبَ ذلك موسكو، ولا أردوغان سيتنازل عن مكاسبهِ.. وتبقى مسألة التسوية في سورية أكبر بكثير من ذلك.. لقد باتت مسألة دولية، والحدود التقسيمية اليوم المفروضة بِحُكم الأمر الواقع، لن تزول إلا بتسوية دولية واتفاق روسي أمريكي تركي إيراني، في الدرجة الأولى.. وهذا لا يلوح في الأفُق حاليا، بل زاد من الأمر تعقيدا الحرب في أوكرانيا، وتربُّص كلٍّ من روسيا وأمريكا ببعضهما بعضا في كل مكان.. فحيثُ تقف أمريكا، تقف روسيا بعكسها، والعكسُ صحيح..

سيرياهوم نيوز 6 رأي اليوم

x

‎قد يُعجبك أيضاً

بعد الفيتو الامريكي على وقف القتل: خطوتان مجديتان

  ا. د. جورج جبور       الخطوة الأولى: *انتقال صلاحيات مجلس الأمن الى الحمعية العامة بموحب قرار التوحد من أجل السلم. يتخذ قرار ...