| عبد المنعم علي عيسى
لم يكن مفاجئاً ما آلت إليه جولة المحادثات الأمنية التي انعقدت أواخر شهر تموز المنصرم في موسكو بين الوفد السوري برئاسة رئيس مكتب الأمن الوطني اللواء علي مملوك وبين نظيره التركي برئاسة حقان فيدان رئيس جهاز الاستخبارات التركي، ولا كان متوقعاً أيضاً أن تفضي تلك الجولة إلى أكثر ما أفضت، قياساً لاعتبارات عديدة لعل من أبرزها «الحاجز النفسي» الذي راكمته السنون العشر السابقة، وعلى الرغم من وجود الكثير من القضايا الخلافية التي تحتاج إلى الكثير من الجهد حتى تصبح في أطرها الطبيعية القادرة على دفع العجلات قدما للأمام، إلا أن العامل النفسي غالباً ما يمثل، في مثل حالات كهذه، العائق الأكبر الذي تحتاج عمليات إزالته المزيد من الوقت اللازم لالتقاط الأنفاس والدفع بشريط الأحداث نحو ركن «غير مؤلم» في الذاكرة، وللتخفيف من التشنج الذي تستولده بالضرورة سياقات أزمة طاحنة كان الطرفان فيها يعتبران نفسيهما فيها على حدود صراع وجودي مع الطرف الآخر.
ما تشي به المطالب التي تقدم بها الطرفان، والتي نقلتها مصادر روسية وغربية بدرجة تكاد تكون متوافقة، هو أن كلاهما قد اختار «جس نبض» الآخر في محاولة للوصول إلى تشكيل صورة متكاملة عما تخبئه كوامن النفس ومراميها البعيدة، حتى إذا ما تشكلت تلك الصورة بات من الممكن تقدير مدى «جدية» الطرف الآخر في تبني خيار الحوار للوصول إلى تسوية سياسية يمكن لها، فيما لو حصلت، أن تشكل جداراً استنادياً قوياً يمكن البناء عليه للوصول إلى تسوية سياسية شاملة للأزمة السورية، وما يؤكد هذا التقدير الأخير، القائل إن الجولة كانت لجس النبض فحسب، هو أن لائحة المطالب التي تقدم بها الطرفان، كل منهما على حدة، هي من النوع الذي يرقى إلى مصاف «تصفير المشاكل»، وهو أمر من الصعب تحقيق اختراق فيه على المستوى الذي جرت فيه، الذي نقصد به المستوى الأمني، مهما طالت جولات التفاوض على هذا المستوى.
تقول المصادر المشار إليها أعلاه إن دمشق تقدمت بخمسة مطالب هي: احترام السيادة السورية – وضع جدول زمني للانسحاب التركي الكامل عن كل الأراضي السورية وصولاً إلى استعادة إدلب وسيطرة الحكومة السورية على معبر باب الهوى – وقف دعم الجماعات المسلحة – فتح الطريق الدولي M4 على امتداده – مساعدة الحكومة السورية على تخطي العقوبات الغربية واستعادة السيطرة على الثروات الطبيعية في شرق الفرات، على حين تقدمت أنقرة هي الأخرى بخمسة مطالب تمثلت في: مساهمة الحكومة السورية بعمل جدي ضد «حزب العمال الكردستاني»- ارتفاع وتيرة التعاون الأمني بين البلدين لضبط الحدود- البدء بمفاوضات بين الحكومة السورية والمعارضة المدعومة تركيا للوصول إلى تسوية- عودة اللاجئين السوريين إلى ديارهم وإنشاء مناطق آمنة في حلب وفي جيوب أخرى شمال سورية تكون بعمق 32 كم – تسهيل الحكومة السورية لعمل «اللجنة الدستورية».
بنظرة متأنية للمطالب التي تقدم بها الطرفان يمكن القول إن هناك الكثير من المعوقات التي تقف أمام أن يصبح طريق أنقرة دمشق سالكا بشكل طبيعي، فالمطالب السورية هي في حدودها الدنيا التي لا يمكن المساومة على أي منها، على حين تبدو المطالب التركية مطاطة، ولربما كان كل بند منها يحتاج وحده إلى اتفاقية، فموافقة الحكومة السورية على المشاركة بعمل جدي ضد «حزب العمال الكردستاني» ناهيك عن أنه يصيب اللحمة الوطنية السورية بشرخ من نوع لا تحتمله هذي الأخيرة الآن، فهو يحتاج إلى مناخات لا تبدو متوافرة الآن، أما الطلب برفع مستوى التنسيق الأمني بين البلدين لضبط الحدود فهذا ممكن، ولربما أريد منه القول بوجوب تعديل اتفاقية أضنة 1998 الأمر الذي لم ترفضه دمشق في أي مرحلة من مراحل الصراع، أما الثالث الذي يقول بعودة اللاجئين إلى ديارهم فهذا يمثل بالدرجة الأولى مطلباً سورياً، لكن الأهم هو كيفية تلك العودة، وإذا ما جاءت هذي الأخيرة في سياق «منطقة آمنة» خاضعة بشكل أو بآخر للوصاية التركية فهذا يعني انتهاكا للسيادة السورية التي حرصت أنقرة، في قمة طهران 19 تموز الماضي، على تأكيد احترامها لها، وفيما يخص الطلب الرابع المتعلق ببدء مفاوضات بين الحكومة السورية والمعارضة للوصول إلى تسوية، يمكن القول إن دمشق تبدي «مرونة» في هذا الاتجاه لكن تبقى التفاصيل التي يجب أن تكون سورية – سورية، ليشكل الطلب الخامس، المتعلق بتسهيل الحكومة السورية لعمل «اللجنة الدستورية»، النقطة الأعقد، إذ لطالما كان من المؤكد أن عمل هذه اللجنة بات ورقة إقليمية ودولية تمسك بها أطراف عديدة، ومن الصعب على طرف من الأطراف حلحلة تعقيداتها بشكل منفرد، فموسكو، على سبيل المثال، لا تزال ترفض انعقاد جولاتها القادمة في جنيف، وعلى الرغم من أن المبعوث غير بيدرسون كان قد زار موسكو مؤخراً إلا أن ذلك لم يفض لإيجاد حل لهذه النقطة.
تقوم الوساطة الروسية في محاولتها لردم الفجوة القائمة بين الطرفين على محاولة «تعويم» التلاقيات وفي الذروة منها التنسيق ضد الحركات الانفصالية، مع التركيز على عامل الوقت الضاغط، حيث التقديرات هنا تقول إن استمرار الوضع القائم، الذي يستثمر فيه الغرب بطريقة ممنهجة، سوف يراكم الكثير من المعطيات التي تعيق استعادة البلاد لوحدتها من جديد، وهو تقدير صحيح لكنه يحتاج إلى قوة دفع روسية مضاعفة، ومن ناحية أخرى يمكن القول إن أنقرة سارعت بدورها إلى إطلاق الإشارات التي كان البارز منها أقرب للإيماء، ففي تصريح لقائد إحدى المجموعات المسلحة المرتبطة بأنقرة نقله موقع «المونتيور» قبل أيام قال هذا الأخير «إن لم تساعدنا تركيا في مواجهة النظام، نأمل أن تزودنا أميركا بأسلحة نوعية لمواجهة أي هجوم محتمل لروسيا والنظام السوري على إدلب وشمال سورية»، وهو تصريح يحمل دلالات عدة من بينها أن أنقرة أبلغت تلك الفصائل بأن «بازارها» قد فتح، وعليها أن تتحضر لكل الاحتمالات.
راكمت السنون العشر الماضية الكثير من الحواجز على طريق أنقرة دمشق، والكثير منها يحتاج إلى جهد كبير لإزالته، لكن يبدو من بعيد أن ثمة قراراً قد اتخذ في العاصمتين السورية والتركية، وبإسناد روسي، يقضي بوجوب فتح ذلك الطريق مهما كانت المعوقات التي تحول دون ذلك الفعل.
سيرياهوم نيوز3 – الوطن