- وليد شرارة
- الجمعة 28 آب 2020
استعراض القوة يلي التصعيد الكلامي. وفي مقابل التدريبات البحرية والجوية في شرق المتوسط، التي أعلنت عنها وزيرة الدفاع الفرنسية فلورانس بارلي، والتي تشارك فيها بلادها إلى جانب اليونان وقبرص وإيطاليا، تقوم سفن حربية تركية بمشاركة مدمرة أميركية بتدريبات عسكرية في المنطقة نفسها
يستند منطق الجبهة المقابلة لتركيا، والتي تضم اليونان وقبرص وفرنسا وإيطاليا ومصر، إلى مرجعيات كالقانون الدولي وقانون البحار والمعاهدات والاتفاقيات الدولية، ومنها طبعاً معاهدة لوزان، باعتبارها القاعدة التي يجب أن تحكم سلوك الدول. ما يتجاهله هذا المنطق هو أن موازين القوى الدولية التي أنتجت هذه المرجعيات جميعها في سياقها دخلت في مرحلة تغيّر متسارع، في العقدين الماضيين خاصة. فالهيمنة الغربية الأورو – أميركية، التي ترسخت بعد الحربين العالميتين، آخذة بالتراجع المستمر أمام صعود قوة ونفوذ القوى غير الغربية الكبيرة والمتوسطة كالصين وروسيا وإيران وتركيا والهند وجنوب أفريقيا، على سبيل المثال لا الحصر. لم تخطئ تقارير البنتاغون عندما وصفت الصين وروسيا بالقوى الساعية إلى إعادة النظر بأسس وقواعد النظام الدولي الذي شيّده الغرب، أي نظام الهيمنة الغربية. يصح هذا الوصف أيضاً على القوى غير الغربية التي ذكرنا، والتي تعتبر أن هذا النظام راعى مصالح أطرافه الغربية المسيطرة على حساب مصالح وسيادة «الآخرين»، بلدان وشعوب جنوب العالم بالأخص.
ستتيح حقول غاز شرق المتوسط لبلدان القارة العجوز فرصة لتنويع مصادرها
موقف تركيا من حدودها البحرية يشبه في جوهره موقف الصين من هونغ كونغ وتايوان، وموقف روسيا من جزيرة القرم، وكذلك موقف الشعوب العربية من الحدود المصطنعة في ما بينها أو من الكيان الصهيوني الغاصب الذي حظي باعتراف «الشرعية الدولية»! لا يعني هذا الأمر أن الاعتبارات القومية وحدها هي التي تفسر موقف إردوغان. لا شك أن للاعتبارات الاقتصادية، أي تعظيم حصة تركيا من حقول الغاز البحري، وزناً حاسماً بين دوافع هذا الموقف، وكذلك للحسابات السياسية الداخلية المتصلة بسعيه في كسب المزيد من الشعبية، بعدما أظهرت انتخابات 2019 البلدية تراجعاً ملحوظاً في معدلاتها. المؤكد اليوم هو أن غالبية واضحة في أوساط النخب والرأي العام التركي، بما فيها تلك المعارضة لتوجهات حزب «العدالة والتنمية» العقائدية والسياسية، تدعم حكومته في المواجهة الدائرة في شرق المتوسط.
إذا كانت خلفيات الموقفين القبرصي واليوناني مفهومة لأنها ترتبط بالدفاع عن مصالحهما المباشرة وحصتهما من حقول الغاز، بمعزل عن النقاش التاريخي حول الحدود البحرية بينهما وبين تركيا، فإن ما يستحق التفكير والتحليل هو خلفيات الموقفين الفرنسي والإيطالي. فمساهمة شركات البلدين في مشاريع التنقيب عن الغاز واستخراجه في قبرص واليونان ومصر، وحقيقة أن حقول غاز شرق المتوسط ستتيح لبلدان القارة العجوز فرصة لتنويع مصادرها والحد من اعتمادها على الغاز الروسي وحده لا يكفيان لسبر غور هذه الخلفيات. فالغاز الذي سيستخرج من حقول خاضعة للسيادة التركية سيباع قسم كبير منه لأوروبا أيضاً.
الواقع هو أن تجرؤ تركيا على إعادة النظر بحدود بحرية رسمتها موازين القوى المختلّة لمصلحة فرنسا وبريطانيا بعد الحرب العالمية الأولى، وفرضت احترامها الأساطيل الأوروبية، وخاصة الفرنسية والبريطانيه الأكثر وجوداً في المتوسط إلى جانب الأميركية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، هو العامل الأشد استفزازاً للأطراف الأوروبية المعنية. السيطرة الاستراتيجية على المتوسط بحجة ضمان احترام القانون الدولي وقانون البحار وحرية الملاحة والحدود البحرية للدول المشاطئة كان من مرتكزات الهيمنة الغربية على بلدان ضفتيه الجنوبية والشرقية. محاولة قوة إقليمية صاعدة كتركيا تعديل هذا الواقع، ولو جزئياً، يقع في صلب المجابهة الراهنة. من المفيد مراجعة مدى التوتر الأوروبي حيال الوجود البحري الروسي في سوريا وإصرار الخبراء الغربيين على النظر لحزب الله باعتباره قاعدة متقدمة لإيران على ضفة المتوسط الشرقي، لإدراك الثوابت الاستراتيجية التي ما زالت تحكم الرؤية الغربية لهذا البحر.
صحيح أن الولايات المتحدة تتخذ موقفاً محايداً تجاه المجابهة الحالية وأنها تحرص على مراعاة تركيا لأسباب تتعلق برغبتها الحدّ من تقاربها المتزايد مع روسيا في السنوات الأخيرة، لكن الموقف الروسي بدوره حيال المجابهة المذكورة يراعيها أيضاً، وهناك معلومات متواترة عن احتمال مشاركة الأخيرة في عمليات التنقيب عن الغاز واستخراجه مع هذا البلد. إذا أشار هذا الأمر لشيء فهو يشير إلى وزن تركيا المتزايد وسعي الأطراف الدولية للتأقلم مع هذا التطور. على ضوء هذه المعطيات، تكتسب الاندفاعة الفرنسية تجاه لبنان والإصرار على إنجاح تشكيل حكومة والمضيّ بإصلاحات بعداً جديداً لا علاقة له بالتضامن الإنساني والعلاقات التاريخية بينه وبين فرنسا.
(سيرياهوم نيوز-الاخبار)