بشار الحجلي
مطلع الثمانينات، من القرن الماضي، تردد على مسامعنا عناوين عريضة، لم نكن ندرك مغزاها، كوننا كنا يومها، من فئات عمرية صغيرة نسبياً، من تلك العناوين شعار “ديمقراطية التعليم” ومثله “ربط الجامعة بالمجتمع “، وكذلك ما يشير إلى أهمية التعليم المتوسط التقني، والفني، ليشكل رافداً مهماً لهرم القوى العاملة في سورية، كون هذا النوع من التعليم، يعمل جسراً مهماً، يربط التعليم العالي، بما يطرح من شهادات عليا، وبين خريجي الثانويات بكافة اختصاصاتها.
مثل هذا النوع من التعليم، ليس اختراعاً محلياً، فالعالم عرفه قبلنا بأشواط كبيرة، فهو يشكل عصب القوى العاملة في أي بلد، والحلقة الميدانية، الحاملة لمنصات الإنتاج والتطور التقني، بحيث لا يمكن تجاوز هذه الحلقة، مما يفسر سبب الاهتمام والتركيز على التعليم المتوسطي، والمعاهد التقنية.
ولحظ هذا الجانب المهم في سياسات المفاضلات والقبول الجامعية، التي تفصلنا أيام قليلة عن الإعلان عنها، لكن اللافت، هو التركيز على اختصاصات معينة، دون غيرها، لأنها تمثل فرصاً أوسع لدخل أكبر، هذا غير اختصار الزمن الدراسي لسنتين فقط ، بدلاً من أربع أو خمس سنوات، ومن ذلك المعاهد التقانية الطبية والهندسية وتعويضات الأسنان، التي تسجل درجات عالية لقبول المتقدمين للدراسة فيها، في وقت تحاول المفاضلات، والخيارات الواسعة -الإجبارية- للطلاب خلق حالة من التوازن مع تلك المعاهد، لتوسع مروحة القبول لمعاهد غيرها.
لكن الأخيرة، تشكل لدى الكثيرين من منتسبيها، محطة للتأجيل الدراسي، أو إعادة المحاولة من جديد!
ما أخشاه أننا ندور بحلقة مفرغة لا تحل المشكلة، لهذا نحتاج تفكيراً جدياً، ومسؤولاً، يشجع الطلاب لدخول هذا النوع من التعليم، ويمنحهم الحافز المعقول، للدراسة فيه، وإلا وجدتنا بعد مدة في عوز كبير لخريجي هذه الاختصاصات في ميادين العمل والإنتاج .
لن نطيل الحديث، في شرح معاني ودلالات شعار ديمقراطية التعليم، الذي جعل التعليم الجامعي في متناول أبناء الكادحين، والفقراء وفي متناول جميع الناجحين في الشهادات الثانوية، بعد أن كان حكراً على أبناء الطبقات الغنية والمخملية، والقادرين على تحمل نفقات هذا التعليم.
هو في وقته، مكرمة لا ينساها جيلنا، جيل الثمانينات، ولا ننسى ما لحق بهذا النظام من مكرمات منها، الكتاب الجامعي المجاني الذي صار شرطاً لازماً، ومطلوباً ووحيداً للهيئة التدريسية، ألغى ما سبقه، من فوضى الأمالي الجامعية والملخصات، وغيرها.
والأكثر من ذلك، مجانية التعليم بما تعنيه من رسوم التسجيل، والدراسة الجامعية، ومعها السكن الطلابي، والمدن الجامعية، حتى صارت بلادنا مضرب المثل، في قوة شهاداتها، وتفوق خريجوها.
اليوم نسأل بالصوت العالي، ما الذي تغير، وأين نحن اليوم من كل هذا؟ ما الذي حصل حتى صرنا لما نحن عليه اليوم؟ أين الكتاب الجامعي؟ وأين ذلك الحضور الطاغي لكلمة الجامعة؟ وماذا تغير لنكون أمام هذا التهافت والتدافع، لحجز مقعد في الجامعات الخاصة، مقابل مبالغ فلكية، ربما يعجز لساننا عن ذكرها؟
بل كيف تحولت مرحلة ما قبل الجامعة، كابوساً للأهل قبل الأبناء? ليصبح تأمين تكاليف الدراسة الجامعية، جنزيراً يثقل كاهل الطلبة والأهالي معاً؟
الأسئلة كثيرة، والإجابات عاجزة، لكن الواضح أننا نعيش واقعاً، كل ما فيه مختلف عن مستويات تفكيرنا، والحديث في هذا السياق كالقابض على الرمال، لكن ثمة ما يجعلنا نفكر في العوامل والأسباب التي ساهمت في خلق هذه الحالة، والتي جعلت التصنيف العالمي والعلمي لجامعاتنا يتراجع بنسب جعلت قياداتنا التعليمية تقرع ناقوس الخطر وتعيد ترتيب الأوليات، حتى لا تتسرب مفاهيم الاستهلاك لمستوياتنا التعليمية المختلفة، مع ضرورة التفكير بالدور المهم لترجمة شعار ربط الجامعة بالمجتمع ووضعه موضع التطبيق الميداني وذلك بتوجيه الجانب العملي في كلياتنا الاختصاصية المختلفة نحو تلبية متطلبات المجتمع والبحث عن حلول علمية مناسبة لما تعانيه العملية الإنتاجية من مشكلات، إذ ليس من المنطقي أن ننتظر الآخرين لاحتضان مبادرات طلابنا وثمرات عقولهم ووضعها في مجال الاستثمار خاصة ونحن نحتاج كل الجهود الوطنية المتاحة والكامنة لتأخذ دورها في إعادة اعمار البلاد.
هنا لسنا بحاجة للتذكير بمنجزات طلبة المدارس الصناعية، والمعاهد التقنية في الكثير من دول العالم, خاصة في مجال الصناعات الدقيقة والصناعات الالكترونية، وهذا ممكن لدينا من خلال وضع من يهتم ويقدر في المكان الصحيح, ومن خلال وضع استراتيجية وطنية واضحة البنود تعنى بتطوير جبهات التعليم المتوسط والعالي التقاني، وتوفير مستلزمات العمل، والأهم أن نعلم ماذا نريد؟!، ومن ينفذ هذه الاستراتيجية والأهم أن نملك إرادة العمل، كذلك الحفاظ على بيئة العمل، وتطهيرها من كل الشوائب والمنغصات، عندها يمكننا إدراك أهمية ودور جامعاتنا ومعاهدنا التقانية في تأمين حاجات التطور والنمو المجتمعي.. هذا إذا أحسنا التدبير وامتلكنا إرادة العمل والبناء.
سيرياهوم نيوز 6 – الثورة