| دعاء سويدان
«كلّ ما في العراق فظيع، وبقدْر ما هو فظيع عجيب»
معروف الرصافي، الرسالة العراقية
«يقف العراق عند حافّة الهاوية، يكاد ينزلق إليها، يضع رِجلاً في الفراغ، يتردّد، يتراجع، يتأرجح». بهذه الكلمات وصَف الراحل جوزيف سماحة حالة «أرض السواد» قبل ستّة عشر عاماً، عندما كانت الفتنة الطائفية تنهش أحشاءها متنقّلةً من مِصرٍ إلى مِصر. اليوم، يكاد العراق لا يفارق حالته تلك، عالِقاً وسط انسداد سياسي خانق، إنّما يجلّي بوضوح مآل الهندسة الجينية التي طبّقها عليه الأميركيون، بهدف جعْله «طفل أنابيب» النيوليبرالية الأميركية، وتحويله إلى نموذج «اختراق مذهل» في العالمَين العربي والإسلامي، كما نعَت سماحة، بدقّة، «الوعد» الأميركي لبلاد الرافدَين. على أن «براعة» المستعمِرين الجدد في تشكيل «اليوتوبيا» العراقية، لم تكن لتَتحقّق بهذه الصورة المدهشة لولا رافد من سياسيّي بغداد أنفسهم، الذين استأنسوا لُعبة التحاصُص، وراقت لهم فوضى التنازع، واستطابوا فعْل الفساد، إلى حدّ بات معه قوْل أمين الريحاني عن سياسيِّ بغداد بـ«(أنني) لا أظنّك تجد له صنْواً في الشرق أو الغرب»، مُطابقاً تماماً لواقع هؤلاء، الذين وإن بدُوا ديموقراطيّي اللسان، فهُم أوتوقراطيّو العقل، وثيوقراطيّو القلب، والمجموع «ميْل، بعد الاتّكال على الله، إلى الاستبداد»، بحسب ما يقول الريحاني نفسه.
الازدواج في الأداء يكاد لا يستثني أيّاً من القِوى والشخصيات الفاعلة
وإذا كان هذا الوصْف ينطبق، أكثر ما ينطبق، على التحالف السياسي الذي نشأ في أعقاب الانتخابات النيابية الأخيرة، تحت شعار رنّان هو «إنقاذ وطن»، فإن مَن اختاروا الوقوف على الضفّة المضادّة لا يَبينون أفضل حالاً. صحيح أن مياهً كثيرة جرت مذّاك، وأعادت خلْط الأوراق على الجبهات كافّة، إلّا أن الدوّامة نفسها لا تزال هي هي، من دون أن يتّضح لها خطّ نهاية، وكأنّه قُيّض للملفّ العراقي أن يبقى مفتوحاً أبداً. من جهة الشيعة، يَظلّ زعماء هؤلاء أسِيرِي حالة تنابُذ غير ممكنة العلاج، على رغم أنها بقِيت قابلةً للضبط – وإنْ مع خروقات – طيلة سنوات مثّلت فيها التهديدات الوجودية الدوْرية التي واجهها العراق عامل جمْع واستقطاب. أمّا اليوم، وقدِ استراحت البنادق، وأرْخى المقاتلون الأزنِدة، فقد عادت الأهواء والمطامع إلى الاشتداد – وهي التي لم تخْبُ يوماً أبداً -، مُنذِرةً بصولات وجولات، ربّما لا تكون «المنازلة» التي شهدتها «المنطقة الخضراء» قبل أيام سوى نموذج مبسّط منها. قد يحقّ لمقتدى الصدر، النجم الشيعي الألْمع راهناً، التطلُّع إلى دور سياسي قيادي، خصوصاً أن شعبيّته ليست ممّا يُختلَف عليه؛ وأن تبنّيه خطاباً أقرب إلى هموم الشارع وشواغله ليس ممّا يمكن إنكاره، إلّا أن المعضلة أن الرجل وتيّاره لا تُعرَف عنهما تقاليد ديموقراطية، ولا يَظهران بعيدَين عن منطق الثأر، ولا يبدُوان ممسكَين بشروط إنتاج سياسات تعاقدية تُفضي إلى مواطَنة متساوية، اللهم باستثناء «تعويذات» الصدر عن «تبديد الظلام والظلامة والفساد والتفرّد بالسلطة والولاء للخارج والمحاصصة والطائفية»، وكلّها مشاكل لا يمكن بحال من الأحوال، لسوء الحظّ، أن تعالَج بـ«التعويذات».
هذا الازدواج في الأداء، والذي يَعدّه عالم الاجتماع العراقي، على الوردي، صفة عراقية عامّة «متغلغلة في أعماق نفوسنا»؛ إذ إن «العراقي، سامحه الله، أكثر من غيره هياماً بالمُثل العليا ودعوة إليها في خطاباته وكتاباته، ولكنه في نفس الوقت من أكثر الناس انحرافاً عن هذه المُثل في واقع حياته» (شخصية الفرد العراقي)، يكاد لا يستثني أيّاً من القِوى والشخصيات الفاعلة. نموذج إضافي من ذلك ما يقدّمه خصوم الصدر من داخل «الصفّ الشيعي» نفسه، حيث أضافوا حديثاً إلى كلّ المفارقات التي «ارتكبوها» منذ تراجعهم في الانتخابات النيابية الأخيرة، طرْحهم شعار «دعم الشرعية»، وأيّ شرعية؟ تلك التي لم تفعل شيئاً، منذ أزْيد من عقد ونيّف، من أجل «استعادة الشعور بكرامة الإنسان» – (جورج قرم، “الفكر والسياسة في العالم العربي”) -، بل على العكس تماماً ممّا تَقدّم؛ قد تكون فعلت كلّ ما يمكن أن يُفعل من أجل الإمعان في تهشيم هذه الكرامة، مدفوعةً في هذا بأسباب غير عقلانية مرتبطة – للمفارقة – بافتقادها ماهيّتها، أي بالضبط بكونها «لاشرعية» تأسّست في أعقاب «حرب استعمارية على نظام قمعي لأسباب لا علاقة لها بطبيعته بل بمصالح الدول المُحارِبة» (جوزيف سماحة، “خيارات صوفي”)، فيما لم تفلح كلّ المحطّات التالية للحرب في إكسابها شيئاً غير تعميق حالة «جنون الارتياب» لدى أطرافها كافة، أو ما يسمّيه الباحث الأميركي، مايكل هدسون، «النزعة الخيالية المفتقرة إلى العملانية»، والتي يعزوها إلى «العمل في بيئة سياسية، حيث شرعية الحكّام والأنظمة ومؤسّسات الدول ذاتها، مغيّبة في أفضل الأحوال».
تتيه الأطراف الخارجية ذات النفوذ والتأثير في كيفية التعامل مع ما يجري
في تلك البيئة المُشار إليها ذاتها، ثمّة أيضاً شخصيات، مُسمّاة «وسطية»، تُحاول إظهار نفسها خارج فسطاط الازدواج، بينما هي في الواقع لا تشذّ عن الحقيقة المريرة القائلة بأن «كلّاً منّا ينتقد غيره، وينسب خراب الوطن إلى الآخرين، ناسياً أنه هو مُساهم في هذا الخراب العام قليلاً أو كثيراً»، وأن «كلّ فرد منّا ينتقد الناس كأنّه ليس من الناس»، وفق ما يوصّف الحالَ، الوردي ذاته. صحيح أن وِزر المسؤولية لا يمكن أن يتوزّع بالتساوي، مثلاً، بين نُخبة تشاركت الحُكم على مدار ما يقارب عقدَين، وبين حكومة لا يربو عمرها عن سنتَين ونصف سنة، وأن رئيس هذه الحكومة وعَد العراقيين بـ«الدوْس على رأس الجنيّ» المتمثّل في الفساد، وقدّم لهم نفسه بوصْفه «المارد» الذي سيُخرج من فانوسه السحري مزماراً يدير به ما سمّاها هو عَيْنه «رقصة الثعابين»، إلّا أن ما أثبته العامان الماضيان هو أن زوابع «التحقيق في قضايا الفساد»، وأكبرها «زوبعة أبو رغيف» (نسبةً إلى أحمد أبو رغيف الذي كلّفه مصطفى الكاظمي رئاسة أشْهر لجنة في هذا السياق)، لم تنجلِ عمّا يأمله المكتوون بنيران التلف البنيوي في العراق، بقدْر ما كانت مجرّد أغبرة للتعمية على عمليات «شفط» كبرى، فضلاً عن تمويه ديناميات تحويل «الدولة العميقة»، أو أجزاء منها على الأقلّ، نحو اتّجاهات منافِسة لما أرساه أساطينها سابقاً – وعلى رأسهم نوري المالكي -. على أن «حِنكة» الرئيس السابق لجهاز المخابرات، والتي يرى البعض أنها ظلّت كفيلة حتى الأمس القريب بمُوازَنة ضعفه السياسي، لا يبدو محتوماً أنها ستبْقى وفيّة له، في ظلّ ما يَظهر أنه تحوّل غير مسبوق تعيشه البلاد، ربّما يحتاج الصمود في خضمّه إلى أكثر من القدرة على المناورة، ومهارة دفْع العداوة، وتكتيك عرْض الوساطات، وأساليب الدعاية التي يمارسها مَن «اتّخذوا من هذه الحرفة سبيلاً للارتزاق، وهم لهذا لم يضعوا خطّة لسيرهم، ولم يرسموا هدفاً لأعمالهم»، كما يورد عبد الرزاق الحسني في سياق حديثه عن أسباب فشل الحياة الحزبية في العراق.
لتبْكينّ على العراق
فما لديك سوى الدموع
وسوى انتظارك دون جدوى للرياح وللقلوع!