| وليد شرارة
الاحتفاء الواسع النطاق من قِبَل المسؤولين الغربيين ووسائل إعلامهم بالنجاحات العسكرية التي حقّقتها القوات الأوكرانية ضدّ الجيش الروسي في الأيام الأخيرة، كان مناسبةً جديدة للجهر بالأهداف الحقيقية للحرب التي يخوضها الغرب على الساحة الأوكرانية، وأهمّها إلحاق هزيمة منكرة بموسكو تفضي إلى انهيار ما يسمّونه «منظومة بوتين». أوّل مَن تكفّل بمهمّة الإفصاح عن مثل هذه «التوقّعات» الخاصّة بمصير الرئيس الروسي، هم خبراء الشأن الروسي في الولايات المتحدة، كآنا أبليبوم مثلاً، المؤرّخة المتخصّصة في التاريخ الروسي والعضو في أسرة تحرير «ذي أتلانتيك». رأت أبليبوم، في مقال على موقع المجلة المذكورة بعنوان «آن الأوان للاستعداد لانتصار أوكراني»، أن التطورات الميدانية الأخيرة تؤكد قدرة الأوكرانيين على الحسم السريع للصراع لمصلحتهم، وطرْد الجيش الروسي من كلّ المناطق التي سيطر عليها منذ عام 2014، ما سيؤدّي في المحصّلة النهائية إلى إطاحة بوتين.
غير أن الأهمّ في المقالة هو خاتمتها، حيث تنصح «الخبيرة» صنّاع القرار الأميركيين بالتفكير حول «مستقبل الاستقرار في روسيا نفسها، وإدخال احتمال عدم الاستقرار في مخطّطاتنا. الجنود الروس يهربون من ساحة المعركة ويتخلّون عن معدّاتهم ويطالبون بالاستسلام. إلى متى علينا الانتظار حتى نرى أعضاء الدائرة الضيّقة حول بوتين يفعلون الأمر نفسه؟ إمكانية عدم الاستقرار في قوّة نووية كروسيا تُرعب الكثيرين، لكنها قد تكون الآن احتمالاً غير قابل للتجنّب. علينا الاستعداد لهذا الاحتمال، والتخطيط له، وتقدير الفرص والمخاطر الناجمة عنه». تشير أبليبوم إلى الخطاب الذي ألقاه وزير الدفاع الأوكراني، أولسكي ريزنيكوف، الأحد الماضي، خلال اجتماع «منتدى يالطا» للاستراتيجية الأوروبية، المسمّى «دافوس الأوكراني» السنوي، أمام مجموعة من المسؤولين ورجال الأعمال الغربيين، والذي دعاهم فيه إلى «تعلُّم عدم الخوف على غرار الأوكرانيين». وهو كان قد حدَّد في خطابه هذا «استعادة أوكرانيا لسيادتها على كامل أراضيها، بما فيها الدونباس والقرم»، كهدف للحرب الجارية.
القوات الموالية لكييف تقاتل بشراسة وبكفاءة عالية. غير أن هذا المعطى وحده لا يسمح بتفسير الاختراق العسكري الكبير الذي أفلحت في تحقيقه في شمال شرق أوكرانيا. العامل الحاسم الذي سمح به ليس فقط «إرادة القتال»، التي تتغنّى بها أجهزة الدعاية الأيديولوجية الغربية، بل كذلك القوّة النارية المتعاظمة التي باتت تمتلكها، بفضل أكبر عمليّات ضخّ للسلاح الغربي منذ الحرب العالمية الثانية، والإشراف الأميركي و«الأطلسي» المباشر على إدارة المعارك الميدانية. لا تنفكّ أجهزة الدعاية المذكورة عن الإشادة بالدور المحوري لصواريخ «هيمارس» ومدافع «M777» الأميركية، أو مدافع «قيصر» الفرنسية، على سبيل المثال لا الحصر، في صنْع الإنجاز الراهن، ولا عن المساهمة الأميركية و«الأطلسية» في مدّ القوات الأوكرانية بالمعلومات الاستخبارية عن مواقع القوات الروسية وحركتها، والتي توفّرها شبكة أقمارها الاصطناعية ومنظومة رقابتها الشاملة. هذا ما اعترف به مسؤول بارز في وزارة الدفاع الأميركية، خلال مؤتمر صحافي الاثنين الماضي، عندما أقرّ بأن بلاده تزوّد القوات الأوكرانية بمثل هذه المعلومات.
من النافل قوله إن روسيا لم تستخدم بعد كامل قدراتها العسكرية وقوتها النارية في المعركة الدائرة في أوكرانيا. يعزو البعض ذلك إلى إرادة الرئيس فلاديمير بوتين عدم زجّ المجتمع الروسي في حالة الحرب، مع ما سيستتبعه هذا من تكاليف سياسية داخلية، وخاصّة إذا تزايدت الخسائر البشرية في صفوف القوات الروسية. يعتقد هؤلاء أن السبب المتقدّم هو الذي يفسّر حتى الآن، عزوفه عن إعلان الحرب، بدلاً ممّا يُطلَق عليه حتى اللحظة «عمليات عسكرية»، والبدء بالتعبئة العامّة. يتجاهل أصحاب الرأي المُشار إليه عاملَين مركزيَّين: الأوّل، هو الالتفاف الشعبي الكبير راهناً حول الرئيس، ومشاطرة غالبية الروس موقفه الذي يَعتبر أن غاية الغرب الفعلية هي إضعاف بلادهم وتدميرها؛ والثاني، هو حرص بوتين، على رغم استعار المواجهة، على التمييز بين الشعب الأوكراني، الذي ذكر في مناسبات عدة أنه «شعب شقيق» للروس، وبين النظام في كييف، والسعي إلى تجنُّب تدمير مدنه وبناه التحتية في أنحاء أوكرانيا، وإلحاق خسائر ضخمة في أرواح قاطنيها. استند الرهان المتقدّم إلى إمكانية بروز معارضة شعبية أوكرانية للخيار الانتحاري المتمثّل في المضيّ في نزاع مفتوح مع روسيا بالوكالة عن حلف «الناتو». لكن المستجدّات الميدانية الأخيرة، واتّضاح أهداف الحرب الغربية بما لا يَدعُ مجالاً للشكّ، ستجبّ ما قبْلها على أغلب تقدير. لن تقبل روسيا كدولة وكمجتمع بهزيمة تضعفها وتعيدها دولة على حافة التفكّك كما كانت خلال تسعينيات القرن الماضي، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، بسهولة. ما كان مستحيلاً لن يبقى كذلك، ومَن يَعتقد أن بمقدوره تدمير أمم كبرى، سيدرك سريعاً أنه يحثّ الخطى نحو التورّط في حرب كبرى.