| عامر محسن
«الجريمة التي لا يمكن غفرانها هي أن تضرب ضربةً خفيفة. لا تضرب على الإطلاق إن كان يمكن تجنّب ذلك، ولكن إيّاك أن تقترف الضربة الخفيفة»
ثيودور روزفلت
في وسعك أن تكتب التاريخ بأشكالٍ مختلفة، ومن أكثر من زاويةٍ ووجهة نظر؛ ولكنّني أميل للنظر إلى تاريخ روسيا القريب باعتباره عمليّة تفاعلٍ بين «التاريخ» و«الجغرفيا» بتعبير سمير أمين. هو كتب أنّ التركيز على الجغرافيا وحدها في التحليل (أي «الجيوسياسة» والنظام العالمي) أو التاريخ حصراً (مفهوم الصراع الطبقي مثلاً) ليس كافياً كمنهج؛ ويأخذنا غالباً إلى تنظيرات ثابتة و«جوهرانية» عن العالم ومسار الأمور. من هنا، فأنا أقسّم التاريخ الروسي الحديث إلى مراحل ثلاث أساسيّة، تعكس التقاء هذا الكيان الـ«أوراسي»، منذ أواسط القرن التاسع عشر، بحالة الحداثة والنظام العالمي الجديد. هذه، بمعنى ما، هي قصّة كلّ أقاليم الجنوب و«المصنّعين المتأخّرين»، أي الدّول التي فاتها الدّور الأول في الثورة الصناعية وأضحت تحاول اللحاق بمن سبقها في التحديث والانتاج الكثيف. ثقافتنا المعاصرة، من الصين إلى الهند إلى الشرق الأوسط وروسيا، هي بشكلٍ ما نتاج هذا التفاعل وردود الفعل المتباينة عليه.
يمكن أن نبتدىء القصّة، من هذا المنظار، من النصف الثاني من القرن التاسع عشر، والعقود الأخيرة للقيصرية الروسية. هذه المرحلة الحاسمة تلت فترة توسّعٍ هائل، جغرافي وبشري، للدولة الروسيّة: لم يعد القيصر ملكاً على بلدٍ، هو أساساً إقليمٌ أوروبي زراعي غرب الأورال، بل أصبح يحكم مساحات شاسعة تمتدّ من البحر الأسود إلى بحر اليابان. في الوقت ذاته، كان العديد من هذه «الممتلكات» الجديدة روسيّاً بالإسم فحسب، أهلها لا يشاطرون ديانة الروس وثقافتهم. من هذا السياق انطلقت مشاريع التحديث، عبر نقل ملايين الفلاحين السلاف إلى جنوب روسيا وشرقها، ومحاولاتٍ حثيثة لصنع ما يشبه دولةً مركزية وسوقاً وطنية في أراضٍ شاسعة قليلة السكّان كانت، لفتراتٍ طويلة، تحكم محليّاً وعلاقتها بالعرش في العاصمة رمزيّةٌ بالكامل.
هنا نجد سلسلةٍ من القياصرة «الاصلاحيين» في سان بطرسبرغ، وشخصيات مثل سيرجي فيتِّه – وزير المالية في العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر – الذي قاد برامج التحديث والتصنيع واصلاح القطاع الزراعي، قبل أن يصبح رئيساً للوزراء لفترةٍ قصيرة (وينتهي كأحد ضحايا الهزيمة في حرب اليابان وثورة 1905). بمعنى آخر، إنّ مشكلة روسيا كانت في «هضم» هذا الامتداد الأوراسي الشاسع وتحويله، بتناقضاته وتقاليده وقومياته، إلى دولةٍ «حديثة» ونظامٍ سياسيٍّ مستقرّ. والنظام القيصري انتهى لأنّه قد فشل في هذه المهمّة – من دون الدخول في تفاصيل تاريخية، ما حصل هو أنّ الاصلاحات لم تكن كافية، والروسنة أثارت ردات فعلٍ عنيفة في الأقاليم، والاصلاح الزراعي لم يرضِ النبلاء ولا الفلّاحين الأحرار. البعض يحمل صوراً مشوّهة عن الامبراطوريات التي بادت (كالروسية والعثمانية) وعن أيّامها الأخيرة، وسرديّة «الانحدار» في التأريخ تجعلهم يتصوّرون أنّ هذه الدّول كانت قد استسلمت، في نهاياتها، للرجعيّة والتقليد والمؤسسات البالية. الحقيقة هي أنّ أكثر هذه الحكومات كانت واعية بحدّة لتأخّرها أمام الغرب الصناعي، والعقود الأخيرة لهذه الدول كانت أيّام اصلاحاتٍ محمومة ومحاولات «لحاق» وتحديث مستمرة.
المرحلة الثانية هنا، بالطبع، هي فترة الاتحاد السوفياتي. وما صنعته الثورة البلشفية، من هذا المنظار، هو أنّها قد تمكّنت من انشاء نظامٍ ودولة «تستثمر» هذا الفضاء الأوراسي وتحكمه بفعالية: دولة مركزية تمسك بأطراف الاتّحاد، استثمار المناجم والمعادن في روسيا الآسيوية وبناء صناعاتٍ ومدنٍ كاملة حول هذه الموارد، إلخ. هذا الكيان قد بني بكلفةٍ عظيمة؛ من الحرب الأهلية إلى التجميع واخضاع القطاع الزراعي، وصولاً إلى الحرب العالمية والغزو الألماني، وتجنيد ومقتل عشرات ملايين المواطنين بغية صدّه. ولكن تأسيس السيادة على هذا الجزء من العالم، من جهةٍ أخرى، شكّل قاعدةً لامبراطوريةٍ حقيقية، أصبحت «قطباً» مواجهاً للقوة الأميركية العظمى، وطرفاً كسر الاحتكار الأميركي للسلاح النووي وغيره من عناصر القوّة بعد الحرب العالمية الثانية (بل لعلّ أن العداء الغربي للشيوعية والاتحاد السوفياتي قد جاء، أساساً، بسبب تحكّم البلاشفة بهذا الفضاء الحيوي بين أوروبا وآسيا؛ فلو أن الثورة قد قامت في بلدٍ طرفيٍّ صغير، كرومانيا أو ألبانيا، ولو أقامت نظاماً شيوعياً في بلدها وطالبت بنهاية الرأسمالية، لما كان الغرب قد جعلها عدوّه الايديولوجي الرئيس وسعى إلى عزلها وضربها بهذا الشكل).
الامبراطوريات لا تنحدر وتنهار وهي هامدة مستكينةً لمصيرها، فلماذا تظنّون أنّ أميركا ستكون مختلفة عمّن سبقها؟
هذا التاريخ يفسّر لماذا يستوحي الكثيرون (روساً وغير روس) من أحد هذين «النمطين» حين يقاربون مفهوم «الأمّة الروسيّة»: النمط التقليدي «القيصري» – محافظ، أورثوذوكسي، ومظلّة أبوية لأمّة متعدّدة الأعراق – ونمط الدولة المركزية\البيروقراطية، الدّولة التي تنظّم الشعب وتحمي مصالحه وترعى الأخوّة بين القوميات. البعض، أيضاً، يخلط بين هذين النموذجين ويستلهم عناصراً من كلٍّ منها (فلاديمير بوتين مثلاً). تكرّست هذه الثنائية مؤخراً بعد أن تبيّن بوضوح أنّ «الطريق الثالث»، أي روسيا ليبرالية مندمجة في أوروبا وفي النظام الغربي الرأسمالي، لم يعد مطروحاً أو متاحاً. تمّ تجريب هذا الخيار في مرحلة التسعينيات الكارثيّة، حتّى أصبح الحديث عن لبرلة روسيا ودمقرطتها – في عرف الكثيرين – هو مجرّد رمزٍ كوديّ لفكرة تفكيك البلد وافقاره وتحويله، مجدّداً، إلى هامشٍ يصدّر المواد الأولية ويغرق في أزماته والفساد. رغم ذلك، ظلّت نسبة وازنة من النخب الروسية متمسّكة، حتى الأمس القريب، بالطريق الليبرالي (الخيار المهيمن في عالمها) ولكن النقاش اليوم قد أُغلق وأقفل. الغرب نفسه لا يريد روسيا في رحابه، بل أنّه قد أعاد تعريف نفسه بصورةٍ تكون روسيا فيها خارجه ونقيضه.
ننطلق في الكلام عن الموقف الأميركي من كتابات الباحث الشهير جون ميرشهايمر لا لأنّ تعليقاته حول روسيا وأوكرانيا عميقةٌ أو جديدة، بل – تحديداً – لأنّ أكثر الأمور «الاشكالية» التي يقولها، والتي تستثير ضدّه موجاتٍ من الغضب والنقد، هي عبارةٌ عن بديهيّات «متّفق عليها» في نظريات العلاقات الدولية والمدرسة الواقعية. وهي بذلك تمثّل بقيّة منهجٍ كان حاضراً بقوة في السياسة الخارجية الأميركية، بل وقادها روّاده لفتراتٍ طويلة، قبل أن يخرج رموزه من الخدمة ويتمّ استبداله بعقيدةٍ مختلفة، حتى كاد وجوده يضمحلّ.
حجّة ميرشهايمر الأساس هي أنّ الغرب، حين يقاتل روسيا في أوكرانيا، فهو سيصبح بمثالة تهديدٍ وجودي لموسكو؛ وحين يعلن عليها «الحرب الشاملة»، فهي ستتناسى كلّ تناقضاتها ومخاوفها تجاه الصّين وإيران وكوريا الشماليّة، وتركّز كامل جهدها على مواجهة الخطر المباشر الماثل. من جهةٍ أخرى، فإنّ روسيا دولة نووية، أي أنّك لن تتمكّن من تغيير النظام فيها بالقوّة أو غزوها مهما حصل. فوق ذلك، فإنّ الجميع يعرف أنّ خطاب «الخطر الروسي» و«التوسّع الروسي» في أوروبا هو في الجوهر مجرّد خرافة شعبوية. هي كانت أشبه بتلفيقة تستخدم للحشد والتخويف أيام الحرب الباردة والاتحاد السوفياتي، وروسيا هي ليست الاتحاد السوفياتي. الطريف هنا هو أنّ الغربيين يتصرّفون في القرن الماضي على أساس أنّهم يحتاجون إلى حمايةٍ وعازلٍ بينهم وبين روسيا، فيما الواقع هو أن روسيا هي التي كانت تتعرض دورياً، طوال القرنين الماضيين، للغزو والتدخّل من قبل القوى الغربيّة. إلى أين سيكون، إذاً، هذا «التوسّع الرّوسي» المزعوم؟ أميركا قد ابتلعت أوروبا الشرقية وأصبحت موسكو محاطةً بحكوماتٍ جميعها تقريباً في الاتحاد الأوروبي والـ«ناتو»، وهي تتبارى في التعبير عن عدائها لكلّ ما هو روسي (بل إن بعضها يعيد كتابة تاريخه بشكلٍ يجعل الرّوس هم «العدو الحضاري» والمستعمر، والمسؤول عن جلّ مصائب الماضي)، فأين ستجد روسيا مجالاً للتمدّد وغربها مقفلٌ بأسوارٍ ثلاثة: أوروبا والناتو و«الاخوة السابقين» في حلف وارسو (الذين يروى أن الماريشال جوكوف قال عنهم بعيد تحرير برلين: «نعم، لقد حررناهم من النازيّة، وهم لن يسامحونا على ذلك أبداً»).
إلى أين سيوصل التقليد الجديد الذي يعبّىء الناس في حروبٍ دفاعاً عن «القيم الأوروبية»؟
لم تعد هذه الحجج «العقلانية» مقبولة في واشنطن، وادارة الصّراع هناك قد سلكت منهجاً مختلفاً، وحصل اجماعٌ على إعلان «الحرب الشاملة» ضدّ الرّوس. أنا لا أؤمن بأنّ السّبب هو أن الحاكمين في واشنطن ليسوا «عقلانيين» أو أن عدائيتهم تتحكّم بهم مع كراهية تاريخية تجاه روسيا؛ بل إنّ هذا هو نتاج تغيّرٍ شاملٍ في «عقيدة الامبراطورية» والطريقة التي ستتصرّف بها في العالم في السنوات القادمة. هذا ما سنشرحه في الجزء الأخير من المقال، ولكنّ ملفتٌ هنا، على الهامش، أن نقارن بين العدائية الغربية التي انفجرت ضدّ الرّوس وثقافتهم وتاريخهم وموسيقاهم، والتي تصل بسهولةٍ إلى حدّ التنظير للعنصرية ضدهم، وبين العرب الذين يعيبون على قومهم عداءهم لأميركا وإسرائيل، ويصفون مشاعر الكراهية، حين تظهر في حمأة القهر والحرب، بالتخلّف واللانسانيّة. بل هم يستنكرون أن تقاطع عدوّك التاريخي ولا تتبادل معه – مجرّد مقاطعة (وهذه النخب العربية تمولها في الغالب مؤسسات وصناديق الدول الأوروبية إيّاها، التي تقاطع حالياً الفنون والأدب الكلاسيكي إن كان مصدره روسياً).
الرّهان الحقيقي والعظيم هو ليس في حرب أوكرانيا ونتيجتها (كما أسلفنا، السيطرة على أوكرانيا لن تغيّر شيئاً جذرياً في موازين القوى بالعالم). أنت أصلاً يمكنك أن تتعرّف على «الحروب بالواسطة»، التي يتمّ اشعالها ورفدها من الخارج، حين لا تكون «الجائزة» التي يتحارب حولها الأطراف قيّمة واستراتيجيّة بشكلٍ حيوي، بل إنّ الهدف يكون الصّراع في ذاته والمواجهة مع الآخرين. هذه قصة الحروب التي دمّرت دولاً مثل لبنان وسوريا والصومال؛ وسيتمّ التضحية بأوكرانيا أيضاً على هذا المذبح.
الامبراطورية تعمل وتفكّر على مستوى العالم ككلّ، والخطير في ما يحصل اليوم هو هذا التحوّل الذي يطرأ على بنية الهيمنة: إلحاق أوروبا بالكامل تحت القيادة الأميركية، صعود العسكرة والشراسة ضدّ الآخرين، وخلق جيشٍ عالميّ «أبيض» اسمه «الناتو». في مقاله الأخير، يقول الباحث الألماني وولفغانغ ستريك (وهو من القلّة من بين أترابه الذين حافظوا على نقديتهم تجاه المؤسسة، ولم يتحولوا فجأة إلى جنرالات عسكريين أو إلى منظّرين في العنصرية وأساليب العقاب ضدّ الرّوس) أنّ الهدف من حزمات التسلّح الهائلة التي تُعلن من قبل حلفاء أميركا، من اليابان وكوريا إلى ألمانيا وبولندا، ليس أوكرانيا أو الحرب الدائرة فيها. حزمة التمويل الهائلة التي أقرّتها ألمانيا لجيشها، يضيف ستريك، لن تظهر آثارها قبل خمس سنوات، فهي لن تؤثر على الصراع الدائر. بالمعنى نفسه، لماذا يقوم بلدٌ مثل بولندا بعقد صفقاتٍ لبناء جيشٍ ضخم جرّار، سيمتلك في المستقبل القريب مئات الدبابات والطائرات الحديثة، ويتكلّف على تشغيلها وصيانتها؛ وأنت في الاتحاد الأوروبي والناتو، ولا تهدّدك نزاعات مباشرة مع جيرانك؟ نظرية ستريك هي أنّ هذا السلاح يتم اقتناؤه لكي يُستخدم في نهاية المطاف، ولكن ليس في أوكرانيا.
الامبراطوريّة تتبدّل مع الزّمن، يتغيّر مجتمعها وتفرز نخباً وثقافات جديدة تستبدل ما سبقها. لهذا السبب، ليس غريباً أن تعلن صحيفة حزب اليسار الألماني، في بداية الحرب، أن الناتو قد أصبح «أداة تقدمية» في عالمنا؛ أو أن يصبح أكثر من يتماهى مع الناتو هم الفئات «الليبرالية» النخبوية في أميركا، والأوروبيين الذين كان نشاطهم المفضّل، منذ عشرين عاماً، هو السّير في مظاهرات «ضدّ الحرب»، أيّ حربٍ تجري. لا تناقض جوهرياً في أن تكون متطرّفاً مع البيئة ومتطرّفاً مع الناتو، أو أن تكون مع تحرير المجتمع من البطركية وتجنّد في كلّ حربٍ تخوضها الامبريالية (فالمؤسسة الحاكمة، أصلاً، هي من يتبنى الأجندة البيئية اليوم، كما تفعل مع الديموقراطية والحقوق). التناقض الوحيد هنا هو أنّ هؤلاء الناس – وامتدادتهم في بلادنا – يعتقدون فعلاً أنّهم جذريّون و«كول»، وليسوا مجرّد الوجه البشع للهيمنة وطبقتها المحظيّة، درّبهم النظام ليكونوا نسخته عن مفهوم الانسان «المتحرر» و«الحقوقي» و«التقدّمي» – تقدّمي إلى حدّ الفاشيّة.