|زياد غصن
تفاقَمت، خلال العامَين الأخيرَين، الأزمة الاقتصادية في سوريا على نحو غير مسبوق، متسبّبةً بتداعيات كبرى على السوريين ليس أكبرها تعمُّق ظاهرة الفقر، وازدياد منعدِمي الأمن الغذائي، وانتعاش موجات الهجرة. وإذ تُحمّل الحكومة مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع للعقوبات الغربية، والتي لا يمكن إنكار أثرها في مضاعَفة معاناة هذا البلد، إلّا أن الأكيد أن الفريق الحكومي الحالي، والذي تولّى مهامّه في آب 2020، يتحمّل جزءاً من تلك المسؤولية، بعدما انكشف ضعف أداء مسؤوليه، وتَبيّن أن معظم وعوده كانت أقرب إلى سياسة «دفْش» الملفّات الحيوية إلى الأمام
على رغم الأثر الجسيم للعقوبات الغربية على سوريا، وتَسبُّبها بمشكلات ومصاعب اقتصادية جمّة في هذا البلد، ثمّة قناعة بدأت تترسّخ يوماً بَعد يوم، بأن السياسات الحكومية المتّبَعة خلال الأشهر الماضية، وتحديداً منذ تسلُّم حكومة حسين عرنوس مهامّها في آب 2020، تتحمّل جزءاً ليس بالقليل من المسؤولية عن تعميق تلك المشكلات خلال العامَين الأخيرَين، الأمر الذي يرجّح إمكانية حدوث تعديل أو تغيير حكومي في الفترة المقبلة، أو هذا على الأقلّ ما يتطلّع إليه الشارع، أملاً في الإتيان بفريق حكومي يكون باستطاعته، على الأقلّ، وقْف التدهور الاقتصادي عند الحدود التي وصل إليها.
وتَفاقمت الأزمات التي تعيشها سوريا خلال الأشهر الـ33 الماضية، إلى درجة وصفها البعض بأنها أقرب نقطة إلى حافّة الانهيار، بدءاً من النقص الشديد في حوامل الطاقة والمشتقّات النفطية، مروراً بارتفاع فاتورة الإنفاق الشهري للأُسرة، وليس انتهاءً بالتضخّم الذي الْتهم الدخول والمدّخرات النقدية، وتحديداً تلك التي كانت لا تزال بالعملة الوطنية، وهو ما تُثبته بعض التقديرات الإحصائية البحثية غير المنشورة، والتي تفيد بأن معدّل التضخّم السنوي لعام 2020، وصل إلى أكثر من 235%، وفي عام 2021 إلى حوالى 55%. وعلى هذا، فإن الأسعار، بحسب التقديرات نفسها، ارتفعت بين بداية 2020 ونهاية 2021، بأكثر من 5 أضعاف، الأمر الذي أسهم في هبوط أُسر كثيرة، مِمَّن كانت تُصنَّف على أنها ضمن الطبقة الهشّة، إلى خانة الأمن الغذائي المعدوم. ووفقاً لمسح الأمن الغذائي الذي أجرته الحكومة في نهاية عام 2020، فإن نسبة الأُسر الآمنة غذائياً لم تتجاوز 5.1%، في ما يتقارب مع الرقم الوارد في النداء الأخير الذي أطلقته منظّمات أممية، وقالت فيه إن حوالى 14.5 مليون سوري بحاجة إلى المساعدة والدعم. ويؤكد الأستاذ الجامعي والمدير العام السابق للمكتب المركزي للإحصاء، شفيق عربش، أن «استمرار تدهور الأوضاع الاقتصادية أدّى إلى تعمُّق ظاهرة الفقر»، مضيفاً أن «انتشار الفقر بين السوريين وصل إلى ذروته، بحيث لم يَعُد خارج دائرته سوى أثرياء الحرب وحيتانها».
المصائب دفعة واحدة
ترفض شريحة من المهتمّين بالشأن العام الاستكانة إلى المبرّرات التي سِيقت قبل حوالى عامَين ونصف العام، وحُمّلت مسؤولية ما حلّ باقتصاد البلاد. فمرور هذه المدّة الزمنية كان كافياً لتجاوز مفاعيل تلك المبرّرات أو التخفيف منها، حتى وإن حافظ بعضها على حضوره وتأثيره كالعقوبات الغربية والاحتلال الأميركي لحقول النفط والقمح. ومن هنا، يُحمّل عربش، حكومة عرنوس، منذ تسلُّمها مهامها في آب 2020 والتجديد لها في آب 2021، مسؤولية «تردّي الواقع الاقتصادي والمعيشي نتيجة الإجراءات التي اتّخذتها، وأسهمت في زيادة الأسعار وإعاقة إطلاق العملية الإنتاجية»، مستدلّاً على ذلك بـ«الارتفاعات المستمرّة في أسعار حوامل الطاقة والمشتقّات النفطية، والفشل في إنعاش القطاع الزراعي سواءً بتوفير مستلزمات العملية الزراعية أو تسويق المنتجات الزراعية، ورفْع الدعم عن بعض الأسر، وهو ما انعكس سلباً على أسعار السلع والخدمات، إضافة إلى فشل الحكومة في محاربة الفساد ووقْف الهدر الكبير». ويلفت عربش، في حديثه إلى «الأخبار»، إلى أن من بين العوامل الموضوعية المساهِمة في هذا الواقع أيضاً، «موجة الجفاف التي أصابت البلاد منذ حوالى عامين، وكان لها أثرها البالغ على إنتاجيّة معظم المحاصيل الزراعية». ولعلّ ما رسّخ قناعة الشارع بمسؤولية الحكومة عن تفاقم الأوضاع خلال الأشهر الماضية، هو أنّ المسؤولين الذين جرى اختيارهم ليتصدّوا لمهمّة محاصَرة الأزمة، تَبيّن بعد وقت قصير ضعف أدائهم ومحدودية إمكاناتهم، فيما الوعود التي لم تَجِد سبيلها إلى التطبيق، تَحوّلت إلى برهان على القصور عن الاستشراف، والميل إلى التهرُّب من مواجهة الملفّات الحيوية، وتفضيل دفْعها إلى الأمام.
ترفض شريحة من المهتمّين الاستكانة إلى المبرّرات التي سيقت قبل حوالى عامين ونصف العام
لكن في المقابل، ثمّة من يؤْثر تناوُل أسباب الأزمة الاقتصادية على نحو أكثر شمولية، ومن هؤلاء الأستاذ في «جامعة تشرين» في اللاذقية، ذو الفقار عبود، الذي يحدّد، في حديثه إلى «الأخبار»، ستّة عوامل أساسية لعبتْ دوراً كبيراً في تدهور الأوضاع، وهي: «تأثّر سعر صرف الليرة السورية بالأوضاع في دول الجوار، وتحديداً لبنان والعراق؛ سيطرة الوحدات الكردية ذات الميل الانفصالي على المناطق الغنية بالنفط والغاز؛ الاحتلال التركي وعملياته العسكرية في الشمال السوري وتأثيراتهما في تراجُع سعر صرف العُملة المحلّية، سياسات مصرف سوريا المركزي، حيث أدّت الفجوة المتشكّلة بين سعر صرف العملات الأجنبية في السوق الموازية والسوق الرسمية، إلى حصول تسرّب كبير للقطع الأجنبي خارج المنظومة الاقتصادية، عبر قيام تجّار كثر بنقل بعض أموالهم واستثماراتهم إلى لبنان ومصر والأردن». ويضيف عبود أن «التخلّي عن العملة السورية الوطنية في مناطق سيطرة الفصائل المسلّحة، أسهم كذلك في إضعاف سعر الصرف، فالعملة التركية هي العملة السائدة (نسبياً) هناك، حيث تقوم تركيا بدفع المعاشات لكثير من القطاعات والبلديات بعُملتها»، متابعاً أن «تجّار دمشق وبيروت قاموا، مع تدهور قيمة الليرة اللبنانية، بسحْب القطع الأجنبي من سوريا لدعم تجارتهم في بيروت، ما أدى إلى زيادة الطلب على العملة الصعبة في دمشق، وتسبّب بالتالي بضرب الاقتصاد السوري. وفي المقابل، مع اندلاع الاضطرابات في لبنان، عمد التجّار اللبنانيون إلى سحب الدولار من الأسواق السورية لدعم اقتصاد بلادهم المتدهور، الأمر الذي أفضى إلى النتيجة نفسها».
إزاء ذلك، لا تبدو الحلول سهلة أو قريبة، خصوصاً أنها لا تقتضي فقط تغييراً في آليات تفكير الحكومة وعملها في مواجهة المشكلات الاقتصادية، وإنّما هي مرتبطة أيضاً بتطوّرات المشهد السياسي، حيث يُعدّ الحلّ السياسي الشامل بمثابة الضامن الوحيد لتخلُّص البلاد من تِركة الحرب الثقيلة. لكن حتى التسويات الجزئية يمكن أن تكون لها تداعيات إيجابية؛ فمثلاً، إن تَحقّقت مصالحة سورية – تركية، فإن تأثيراتها ستكون اقتصادية في جانب هامّ منها، وكذلك الأمر بالنسبة لأيّ اتفاق بين «قسد» ودمشق، أو توسيع دائرة التطبيع العربي مع سوريا سياسياً واقتصادياً. وبحسب عبود، فإن «حاجة سوريا اليوم إلى الأمن الاقتصادي، هي التي تجعل من تدفّق التجارة والاستثمار أمراً ضرورياً، إضافة إلى نزاهة المسؤولين، وإنهاء الحرب وعودة المهجّرين ورؤوس الأموال، وفتح الحدود للتجارة، كلّ هذه العوامل كفيلة بإنعاش الاقتصاد في سوريا».