| محمد سيف الدين
هناك أسباب لارتفاع نبرة الخطاب باستخدام النووي أكثر تأثيراً في المستويين الجيوسياسي والاستراتيجي، اللذين يرتبطان بصراع حضاراتٍ أكثر عمقاً وأغنى أبعاداً، عبّر عنه الرئيس الروسي في خطابه الأخير.
على وقع حالة عارمة من القلق تشكّل مناخ العلاقات الدولية هذه الأيام، ترتفع حدة الاشتباك العالمي بشأن الأزمة الأوكرانية إلى مستوى غير مسبوق منذ عقودٍ طويلة من الزمن. وإلى جانب التهديدات العسكرية والأمنية التي تُفرزها هذه الأزمة، تلوح في أفق الاقتصاد العالمي معطيات تشاؤمية تزيد في دقة الموقف بالنسبة إلى الأطراف المتصارعة جميعها.
وعلى الرغم من استمرار المعارك في مناطق شرقي أوكرانيا وحصدها كثيراً من الأرواح، وزيادة تكلفة الأعمال العسكرية بالنسبة إلى الجانبين، فإن دخول احتمال استخدام الأسلحة النووية في قلب المعادلة، بصورةٍ واقعية، رفع مخاطر هذه الأزمة على الأمن والسلم الدوليين إلى أقصاها. فمنذ أزمة الصواريخ الكوبية مطلع الستينيات من القرن الماضي، لم يشهد العالم تهديداً نووياً حقيقياً. أمّا الآن فبات استخدام مفردات الحرب النووية، واستخدام السلاح النووي التكتيكي تحديداً، أمرين شائعين في التصريحات السياسية والخطابات الإعلامية وفي التحليل وصناعة الإعلام، على حدّ سواء.
وفي البحث عن أسباب رواج الحديث عن الحرب النووية، ترتفع إلى واجهة المشهد بواعث متعددة، لكن ليس أحدها تفاصيل المعارك الميدانية. فالمواجهة العسكرية بين القوات الروسية والقوات الأوكرانية يمكن أن تنضبط تحت سقف المواجهة التقليدية، يُضاف إليها ما توفره التكنولوجيا الحديثة من وسائل، وما تنتجه العقول العسكرية من تكتيكات ومناورات وأساليب العلوم العسكرية الحديثة، من دون أن يشكّل تقدم ميداني معين، مهما بلغ حجمه، سبباً حقيقياً في استخدام السلاح النووي. وتتعزّز هذه الفرضية من خلال التدقيق في موازين القوى العسكرية بين القوتين المتقاتلتين، بحيث يتفوق الروسي، بصورةٍ واضحة، من ناحية القدرات العسكرية، كما من ناحية القوى البشرية التي يمكن دفعها إلى ساحة القتال، من دون أن ينسحب هذا التفوق على عديد القوات الموضوعة فعلياً في القتال اليوم. أمّا من الناحية الأوكرانية، فإن التفوق العددي في ساحة المعركة لا يزال يشكل عاملاً مساعداً على الصمود بصورة عامة في وجه قوةٍ عظمى، إلى جانب المساعدات العسكرية والمالية والتقنية والاستشارية، والتي تقدمها دول الناتو إلى كييف، وذلك على أمل تعطيل أهداف العملية الروسية الخاصة في أوكرانيا، وتحقيق هزيمة يتمناها الغرب لبوتين هناك.
لكنّ الأسباب الحقيقية في ارتفاع احتمالات استخدام الأسلحة النووية ليست كل ما سبق. هناك أسباب أكثر تأثيراً في المستويين الجيوسياسي والاستراتيجي، اللذين يرتبطان بصراع حضاراتٍ أكثر عمقاً وأغنى أبعاداً، عبّر عنه الرئيس الروسي في خطابه الأخير، حين فصّل نقاط التناقض ونقاط الاختلاف بين مشروع الحضارة الروسية ومفرزات النظام العالمي، الذي تحاول واشنطن المحافظة على هيمنتها فيه.
بالنسبة إلى بوتين، فإن إصرار واشنطن وكييف على رفض المسار السياسي، أو تأجيله على الأقل، في سبيل تحقيق نتائج ميدانية ضرورية لاستعادة التوازن، يُفرز مخاطر لا سبيل إلى حصرها. فعلى المستوى العسكري، يؤدي هذا الرفض إلى تضييق الخيارات إلى حدود المواجهة في الميدان، الأمر الذي يضع موسكو أمام احتمالين: إمّا حشد عدد كبير من القوات التقليدية وخوض حرب طويلة الأمد، وبالتالي تعديل عنوان العمل العسكري من عملية خاصة إلى حرب حقيقية شاملة، وإمّا الاستمرار في التقنين الحالي لاستخدام القوات، ومواجهة مخاطر المراوحة، وتمكين واشنطن من تحقيق مكسب مفيد جداً، وغاية تسعى لها من أجل إغراق روسيا في حرب شبيهة بحرب السوفيات في أفغانستان.
بين هذين الخيارين، ابتكر الكرملين خياراً ثالثاً، وهو إعلان التعبئة الجزئية لنحو 300 ألف جندي، يجري الآن تدريبهم ليُرسَلوا في الأسابيع المقبلة إلى محاور المواجهة، ضمن إطار العملية الخاصة ومن دون التوسع إلى الحرب. يؤمن هذا الخيار لموسكو سد النقص القائم على الجبهات، ولاسيما في الخواصر الرخوة التي حققت فيها قوات كييف تقدماً خلال الأسابيع الأخيرة، كما يبقى الإنفاق الحربي ضمن سقف منضبط بعيد عن مستوى الإنفاق في الحروب الشاملة. وبالإضافة إلى ذلك، فإن إعادة التوازن العددي سوف يسمح للتفوق الروسي في العتاد والوسائل بتحقيق انتصارات عسكرية على قواعد أكثر صلابة من تلك التي شهدتها الأشهر الماضية. وعلى المستوى السياسي، يُبقي هذا الخيار روسيا ضمن موقفها السابق، ومفاده أنها لا تريد حرباً واسعة مع أوكرانيا، وأنها تخوض المواجهة وفي وجدانها ضرورة مواصلة العلاقات التاريخية بالشعب الأوكراني، وعدم المخاطرة في تحويل أوكرانيا إلى دولة عدوة. وهو ما يفسر تقنين الوسائل العسكرية المستخدمة حتى الآن، وحصر مساحة الاشتباك في الشرق، وعدم استهداف كل الأراضي الأوكرانية، وخصوصاً تحييد البنى التحتية المدنية من الضربات، وهي خيارات كانت ستؤمّن فوائد عسكرية كبيرة للقوات الروسية لو أنها اتُّخذت.
سيناريوهات استخدام النووي
أمّا الخيار الرابع، وهو استخدام السلاح النووي، فإنه لا يكون واقعياً سوى في حالات استثنائية محدَّدة لا تتوافر شروطها الآن. فوفق العقيدة الاستراتيجية الروسية بعد الحرب الباردة، وخصوصاً في مرحلة فلاديمير بوتين، وبصورة خاصة جداً في النسخة الأخيرة من وثائق الأمن القومي الروسي، يكون هذا الخيار ضرورياً حين تواجه روسيا مخاطر وجودية وحاسمة، تهدد أراضيها وشعبها ومصالحها، كاستخدام قوى أخرى للسلاح النووي ضدها، أو التهديد باستخدامه، أو في حال قدّرت موسكو وجود تهديد حقيقي للأمن القومي الروسي. لكن، هل تُعَدّ خسارة الحرب حالة يمكن فيها استخدام النووي؟
في الحالة الأوكرانية، وبالنظر إلى قيمة أوكرانيا بالنسبة إلى التاريخ الروسي وإلى روسيا المعاصرة، من النواحي كافة، ومع تعقد المواجهة وتحولها إلى صراع عالمي، تلوح في الأفق ظروف تختزن مثل هذا السيناريو الكارثي.
الحالة الأولى، يمكن أن تتحقق إذا دخل حلف شمال الأطلسي أو الولايات المتحدة الحرب بصورةٍ مباشرة ومعلنة. واشنطن وبروكسل تصرّان على أنهما ليستا طرفاً في الحرب. وهذا معطى حاسم بالنسبة إلى احتمالات استخدام الأسلحة النووية. لذلك، فإن تحول الصراع إلى صراع مسلح بين روسيا و”الناتو” يتعزز معه حكماً احتمال استخدام السلاح النووي.
الحالة الثانية، تتحقق إذا تم تسليم كييف أسلحة استراتيجية (نووية أو تقليدية) مؤهّلة لإلحاق ضرر نهائي بالقوات الروسية، أي أسلحة تردم الهوة بين تسليح كييف وتسليح “الناتو”، بحيث تصبح القوات الأوكرانية مجرد واجهة لاشتباك الناتو مع روسيا، بينما يكون الإمداد كله أطلسياً، وبسقفٍ مفتوح. هذه الحالة تحديداً هي مصدر الخطر الأكبر الآن، بحيث إن تقدير المستوى الفاصل بين التسليح المقبول وغير المقبول روسياً يعود إلى موسكو وحدها، ثم إن ذلك يعتمد على المعلومات الاستخبارية أكثر مما يعتمد على التصريحات ومواقف الدول. وبالتالي، فإن مجال المناورة في هذا الإطار واسع جداً إلى الحد الذي قد يُفرز سوء تقدير من جانب، أو مغامرة غير محسوبة من جانب آخر.
الحالة الثالثة، هي اقتراب روسيا من خسارة الحرب، بكل ما يحمله هذا الأمر من تعقيد. تتحقق هذه الحالة لو حدث سيناريو المغامرة غير المحسوبة في الحالة الثانية، وتمكّنت قوات “الناتو” (أوكرانيا في الواجهة) من الاقتراب من تحقيق انتصار واضح على الروس في الميدان. سيُفرز ذلك السيناريو على الأرجح ضربةً نووية تكتيكية ترسم الخط الأحمر العريض في المواجهة العالمية، وليس في المواجهة الأوكرانية الروسية، ذلك بأن الصراع، بالنسبة إلى القوى الكبرى، ليس على أوكرانيا، وإنما على النظام الدولي بصورةٍ أوسع. وتحقيق هذه الخسارة سوف يُثبت سيطرة الغرب بقيادة واشنطن على النظام الدولي، ويؤدي إلى ضربةٍ قاتلة لطموح القوى الناشئة وكل القوى التي تناهض الهيمنة الأميركية على النظام الدولي. وسوف يحسم الحرب مع الصين قبل أن تبدأ. فروسيا هي الذراع العسكرية الأكثر قوة بين الدول المناهضة للهيمنة الأميركية، وهزيمتها سوف تعني أن الحرب يمكن أن تقضي على أي صعود لقوة عظمى منافسة في النظام الدولي. وبالتالي، ستتراجع الدول عن ذلك علماً منها بسيناريوات نهاية المطاف في المواجهة مع الأميركيين. لذلك، فإن اقتراب تحققه في أوكرانيا سيكون إشارةً إلى قرب انفجار قنبلة نووية في مكان ما.
وإلى جانب ذلك، فإن استخدام السلاح النووي التكتيكي يمكن أن يكون في حالات ميدانية غير منظورة، منها على سبيل المثال، تقدير الروس وجود سيطرة وتوسع لقوات ذات عقيدةٍ نازية في بعض المحاور من الجانب الأوكراني، الأمر الذي يفعّل مباشرةً بروتوكولات عسكرية روسية مصمَّمة للقضاء على النازية، يدخل من بين احتمالاتها استخدام النووي.
الأسابيع المقبلة
أما الآن، فتبدو التطورات العسكرية لافتةً جداً ومريبة، فبينما تستعجل كييف السيطرة على أكبر مساحة ممكنة من الأرض قبل الشتاء، لحصد أوراق قوة تُستخدم في مرحلةٍ لاحقة لاستكمالها باستعادة ما خسرته من الأراضي، أو لاستثمارها على طاولة المفاوضات بعد انطلاق المسار السياسي، تعتمد موسكو نهجاً انسحابياً في الميادين التي تدخلها القوات الأوكرانية بحشود كبيرة للقتال، حيث تتجنب القوات الروسية الاشتباك، فتنسحب وتوفر الجنود، ثم تحاول تكبيد المهاجمين القدر الأكبر من الخسائر في الجنود والعتاد، في الأرض التي تتركها لهم.
يؤدي هذا التكتيك إلى كسب الوقت، الأمر الذي يسمح بتوفير التكلفة قبل الهجوم الواسع والمتوقع من جهة روسيا خلال أسابيع قليلة. ويفقد الهجوم الأوكراني جزءاً كبيراً من القدرة على التأثير، ويحصرها في مكسب الحصول على الأراضي، والذي يُعَدّ مكسباً متحركاً في الحروب من هذا النوع، بينما تبقى القوى المعادية محتفظةً بقدراتها كاملةً في المساحة الخلفية التي انسحبت إليها. هذه التطورات تعطي إشارات واضحة إلى مسار الأسابيع المقبلة.
ومن هذه الإشارات، وصول الهجوم الأوكراني إلى آخر زخمه الذي توّجه بالسيطرة على ليمان، وبدأ الزخم المضاد بهجومٍ روسي هدفه السيطرة الكاملة على حدود الجمهوريتين والمقاطعتين، وبالتالي حسم الجزء الميداني من الحرب، واستكمال الصراع على الطاولة، حين تصل ضغوط معدلات التضخم وعلاجات البنوك المركزية الأميركية والأوروبية لها إلى أقصى درجاتها، وحين تنفجر أزمة المديونية في الدول الأوروبية الأكثر ضعفاً، ويشتد البرد وأزمة الطاقة، ويعلو صوت اليمين المتنامي، بنبرةٍ أكثر حدة من صوت جيورجيا ميلوني.
سيرياهوم نيوز3 – الميادين