سعد الله مزرعاني
في معظم دول العالم (ما عدا الملَكية طبعاً)، تستطيع أن تقول، فقط، «انتخابات الرئيس». ذلك يعني، تلقائياً وحكماً، رئيس الجمهورية. في لبنان ثمة «ثلاثة رؤساء» بشكل رسمي. في الواقع عدد «الرؤساء» قد يصل إلى ثمانية عشر رئيساً! وهو العدد المساوي لعدد المذاهب الممثلة رسمياً في المجلس النيابي والإدارة. بـ«فضل» هؤلاء، نشأت في لبنان «كونيفدرالية» الطوائف والمذاهب، التي نتنعَّم، في هذه المرحلة خصوصاً، بفيض عطاءاتها!
تعمّق المسار الكوارثي الراهن، بقوة، بعد «الطائف» منذ العامين 1989 و1990 (تاريخي إقرار الاتفاق والتعديلات الدستورية التي تضمنها). قبل ذلك كان رئيس الجمهورية هو صاحب القرار الأول والأخير في شؤون السلطة والإدارة والحكم. جسد ذلك خلاصة تركيبة وتوزيعة طائفية ومذهبية ما لبثت أن تعرضت لهزات كبيرة ومتصاعدة بسبب التسلط والامتيازات والسياسات الفئوية والخاطئة، الداخلية والخارجية. كان على «الطائف»، بعد مخاض دموي، في حرب أهلية استمرت 15 عاماً، أن يعالج هذا الأمر. كثرة الطبَّاخين، المحليين وخصوصاً الإقليميين (عبر الإدارة السورية خصوصاً)، وضعت النصوص التي تمّ إقرارها في «الطائف»، في مهب تضارب المصالح الداخلية والخارجية (وحتى الدولية). هذا ما أدى إلى بتر التعديلات الإصلاحية وإلى تشويه مجمل تسوية «الطائف» عبر الآتي: تمّ إلغاء مركز القرار الذي كان يمثله رئيس الجمهورية، ولم يتم استبداله بمركز جديد كما كان ينبغي أن يحصل وفق تعديلات «الطائف» نفسه. لقد نقل «الطائف» جزءاً كبيراً وجوهرياً من صلاحيات الرئيس إلى مجلس الوزراء مجتمعاً ضمن سياق كان ينبغي أن يفضي إلى تحرير المواقع السياسية والإدارية في الدولة من القيد الطائفي (المواد 22 – 24 – 95). هذا الأمر كان سيؤدي إلى قيام أكثرية وأقلية على أساس سياسي لا طائفي. جمّد النافذون الخارجيون وكل القوى السياسية الداخلية تسوية وإصلاحات «الطائف» عند المرحلة «الانتقالية». تمّ انتخاب مجلس نيابي «مناصفة» بين المسلمين والمسيحيين وفق المادة 95 من الدستور. تحوَّل «المؤقت»، بحسب الدستور، إلى نهائي في الممارسة. تطبيق «الطائف» بات نموذجاً لضياع القرار، وللتحاصص، ومعهما للنهب والفساد وفشل الدولة وسرقة المواطنين وإفلاس «بلد الأرز» على النحو المأساوي المستمر والمتفاقم منذ ثلاث سنوات حتى إشعار آخر!
هذا جانب من معركة الرئاسة الحالية بالنسبة للتيار العوني. يقابل ذلك جهد كبير لإحباط خطته بمقدار ما هي ترمز اليوم، أو تبقى ترمز، ربما، إلى معادلة انفتاح وتحالف مع تيار المقاومة ممثلاً بحزب الله على غرار ما حصل منذ اتفاق مار مخايل عام 2006.
بيد أن لمعركة الرئاسة وجهها أو بعدها الخارجي الكبير أيضاً. وهي بموجب هذا البعد تشكل محطة جديدة وأساسية في المشروع، الذي تديره واشنطن في لبنان، من أجل نزع الشرعية الرسمية عن المقاومة وسلاحها خدمة للعدو الصهيوني وإسهاماً في استكمال تصفية القضية الفلسطينية، ولتعزيز التطبيع المضطرد والشامل مع العدو الصهيوني، وأساساً، لإحكام السيطرة الأميركية على الشرق الأوسط برمته.
يتخذ الفريق الذي تديره واشنطن، وهو فريق محلي وإقليمي (ودولي طبعاً)، منحى هجومياً مستمراً. يُعبَّر عن ذلك بضرورة الإتيان برئيس يمثل هذا الفريق: رئيس «سيادي»، أو رئيس تحدٍ، أو رئيس إصلاحي… تعدد التسميات هو للجمع ما بين الادعاء بمعالجة الأزمة الاقتصادية والأزمة السياسية من خلال التركيز على أن سلاح المقاومة هو السبب الرئيس لهذه الأزمة.
واقعياً، ليست لرئيس الجمهورية صلاحية اتخاذ القرار. هو فقط، يستطيع التعطيل أو التأجيل. تجدر الإشارة، أيضاً، إلى أن سلطة مجلس الوزراء نفسه، والذي هو سلطة القرار، تبقى محكومة بتوازنات هذا المجلس وبـ«الميثاقية» التي تجعل مجرد انعقاده غير شرعي إذا تغيب مكوِّن أساسي عن حضور اجتماعاته: من قبيل المقاطعة أو الاحتجاج والتعطيل. لقد استُحدِث لممثلي المكونات الطائفية، في سياق ترسيخ وتعميم التحاصص، «فيتو» في مجلس الوزراء على غرار ذلك الممنوح لعدد من الدول الكبرى، في مجلس الأمن!
كما كل استحقاق، يخوض الأطراف معركة الرئاسة الأولى بوصفها عاملاً أساسياً في إحداث أو عدم إحداث انعطافة جوهرية في الوضع اللبناني. تبرز في هذه المعركة، بالإضافة إلى الأهداف الكبيرة، طموحات شخصية، فئويات، أحقاد، تصفية حسابات… بعضها مستجد، وبعضها الآخر يعود إلى سنوات أو عقود. أما بعضها الثالث فيعود إلى قرون!
العوامل الداخلية والخارجية، متفاعلة إلى أقصى الحدود. صراعات المنطقة، وحتى العالم، ماثلة في الخلفيات والاستعدادات والوعود والدعاية والإعلام… التدخل الخارجي بارز أكثر من أي مرحلة سابقة. الأساسي منه يجري تحت عنوان السيادة والتحرير واستعادة القرار!
في ما يتعلق بالأزمة الاقتصادية والأزمة السياسية وما يتصل بهما من احتمالات خطيرة، وما ينجم عنهما من مآسٍ وكوارث، لن تضيف المقاربات القديمة أو الجديدة المشابهة، سواءً كانت خارجية أو داخلية، إلا المزيد من التعقيدات والمشكلات والخسائر. وحدها المقاربات السليمة الإصلاحية والتحررية والجذرية، يمكن أن تنقذ لبنان. ذلك يتطلب صياغات وبرامج جديدة، ومعها توازنات مختلفة وانعطافية بشكل عام.