| عبد المنعم علي عيسى
منذ خروج إدلب عن سلطة الدولة السورية في آذار 2015، ثم قيام الأتراك بأولى عملياتهم العسكرية في سورية تلك التي أطلق عليها اسم «درع الفرات» في شهر آب من العام 2016، تمايز الشمال الغربي من سورية في «كيانين» راح كل واحد منهما يبتني له نظم إدارة وعسكرة تختلف في طبيعتها عن الآخر، بل حتى إن الحياة الاقتصادية كانت كثيراً ما تتباين في المعطيات فيما بينهما، ثم راحت الحدود ترتسم شيئاً فشيئا لتراكم معالم كينونة يعترف كل منهما بها للآخر على امتداد السنوات الخمس السابقة، لكن مطلع العام 2022 بدا كأنه يحمل جديداً في تلك الحيثية التي راحت ظروفها تتباين لتنذر بمتغيرات على وقع التحولات الحاصلة في المشهدين الإقليمي والدولي.
ضم «الكيان» الأول عفرين ومحيطها وصولاً إلى جرابلس والباب، وهو يقع تحت سيطرة فصائل مدعومة من أنقرة أطلقت على نفسها اسم «الجيش الوطني السوري»، بينما ضم الثاني إدلب وجزءاً من محيطها، وهو يقع تحت سيطرة «هيئة تحرير الشام» أي «جبهة النصرة» سابقاً مع لحظ أن هذه الأخيرة كانت كثيراً ما تسعى إلى قيام تحالفات مع فصائل منضوية تحت راية «الجيش» الأول في مسعى يؤكد نزعة التمدد التي يتوقف حراكها العملياتي فيجعلها نشطة، على الظروف الإقليمية ومعطيات الخارج، بينما «الشرارة» التي تؤدي إلى بروز النزعة غالباً ما تكون ذريعة يجري التعاطي معها، حين تسنح تلك الظروف أو تتكامل تلك المعطيات، واستثمارها لتحقيق مكاسب وأرباح من صنوف شتى، والجدير ذكره هنا هو أن عفرين، ومحيطها، كانت قد شكلاً نقطة التماس العريضة بين ذينك الكيانين الآنفي الذكر.
اندلعت المواجهات بين فصائل منضوية تحت راية «الجيش الوطني السوري» يوم 10 تشرين الأول الجاري، وطرفاها هما «الفيلق الثالث» من جهة، و«فرقة الحمزة» و«فرقة السلطان سليمان شاه» من جهة أخرى، وهي، أي تلك المواجهات، اتخذت من محور عفرين ساحة لها، الأمر الذي يفسر انزياح «هيئة تحرير الشام» لفصيل ضد آخر، فالأخيرة وعبر كل المواجهات التي تعددت في غضون السنوات السابقة بين شتى الفصائل، غالباً ما كانت تقف على الحياد لاعتبارات تتعلق بتركيبتها التي تقوم على توازنات معينة من الممكن لها أن تختل في حال التدخل في «صراع خارجي»، أما تدخلها الأخير الذي جرى لمصلحة فرقتي «الحمزة» و«السلطان» فمرده على الأرجح يعود لحساسية الجغرافيا التي جرت على أرضها المواجهة التي بدأت على خلفية اغتيال ناشط ملقب بـ«أبي غنوم» على يد مسلحين من «فرقة الحمزة» في منطقة الباب، شرقي حلب.
أعطت السرعة في التحقيقات والكشف عنها، ثم السرعة في اندلاع المواجهات دليلاً قاطعاً على أن ما جرى كان مبيتاً، وبمعنى آخر فإن الصراع كان يمضي في غضون الأشهر القليلة نحو استكمال شروطه التي تدفع به نحو الحماوة، بينما الشرارة قد تكون بهذه أو بتلك، الأمر الذي قد يشير إلى أن ذلك الفعل قد تم بـ«إيماءة» تركية تسعى أنقرة من خلالها إلى وصع منطقة الشمال تحت سيطرتها على أبواب مفاوضاتها المرتقبة مع دمشق، ثم تحسباً للمحاولات الأميركية التي تبدت من خلال سعي واشنطن لبلورة تحالف «إسلامي» جديد من النوع العابر للفصائل، ومراميه تذهب نحو عرقلة التقارب السوري التركي من جهة ثم تذهب نحو تفخيخ الملف السوري بوجه موسكو من جهة ثانية.
يتخذ الصراع المندلع بين فصائل المعارضة السورية مؤخراً، في طبيعته الداخلية، شكلاً ذا منحيين اثنين، الأول هو أن المواجهة المسلحة بين تلك الفصائل هي حالة دائمة، بينما الهدوء فيها هو الاستثناء، قياساً لغياب المرجعية وانعدام «مأسسة» الكيانات التي تمثل سلطة الأمر الواقع، الأمر الذي يجعل من تلك الفصائل أشبه بمجموعة من اللصوص التي تمارس السطو المسلح والعنف، والثاني هو أن حالة المواجهة الدائمة هي تعبير عن صراع قائم بين قوى تتنافس على النفوذ والمصالح، بعيداً عن أي حسابات أخرى، وإن اندلع ذلك الصراع بفعل خارجي حيث تظل حسابات الأولى، أي النفوذ والمصالح، بوصلة تحدد وجهة الحركة وطبيعتها، ثم تحدد «الممكن» الذي تستطيع أن تذهب إليه هذه الأخيرة.
كخلاصة، يمكن القول إن تدخل متزعم «جبهة النصرة» المدعو أبو محمد الجولاني في الصراع المندلع قبل نحو أسبوع بين فصائل منضوية تحت الراية نفسها ووصوله إلى عفرين، كان قد جاء بإشارة من أنقرة التي التزمت الصمت الذي يعتبر هنا مؤشراً عن رضاها تجاه ما يجري، والإشارة هنا ترمي إلى تحصين أنقرة لمواقعها وجبهاتها، في مواجهة الحراك الأميركي الذي يبدو أنه اتخذ قراراً بالتعطيل المزدوج: التقارب السوري التركي، وعربة التسوية التي قد تسير بمشو أفضل كنتيجة للفعل الأول، وما يعزز هذا التأكيد هو ذهاب إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، قبل أيام، نحو تمديد «حالة الطوارئ» السورية، الذي يعني في مضامينه تمديداً لبقاء القوات الأميركية على الأراضي السورية عاماً كاملاً، وفيما عدا ذلك فكل التفاصيل التي تلحق بالفعل تصبح نتاجاً لعوامل ومرام داخلية من نوع المكاسب التي يمكن أن تتأتى من السيطرة على المعابر أو الحصول على جزء من كعكة «المشاريع السكنية» التي تقيمها أنقرة على حدودها السورية.
الآن إذا ما تراجع الجولاني عن السيطرة على عفرين بعد دخولها، وهو أمر محتمل، فإن ذلك يعني أن الكباش التركي الأميركي لا يزال في مرحلة جس النبض، لكن إذا ما أصر على البقاء فيها فإن ذلك سيكون مؤشراً على أن ذلك الكباش لم يعد تدريباً، وأنه ذاهب نحو مطارحات أشد، وإن كانت شدتها سوف تتوقف على معطيات عدة أبرزها مدى الأهمية التي توليها واشنطن للملف السوري بوصفه عامل «تنغيص» لموسكو.
سيرياهوم نيوز3 – الوطن