| علاء حلبي
من دون مقاومة تُذكر، أذعنت الفصائل المنتشرة في ريف حلب الشمالي للأوامر التركية بتشكيل قيادة موحّدة يقودها زعيم تنظيم «هيئة تحرير الشام»، أبو محمد الجولاني، من خلف الستار. بهذا، عاد الهدوء بشكل تدريجي إلى ريف حلب الذي شهد مواجهات تخلّلتها حركات نزوح جزئية وأعمال سرقة ونهب، لترتسم خريطة سيطرة جديدة تنتظر أنقرة استقرارها لتبدأ استثمارها
بعد أيّام قليلة من اندلاع مواجهات استعرضت خلالها «هيئة تحرير الشام» قوّتها، وتراجعت على إثرها فصائل «الفيلق الثالث» الذي تقوده «الجبهة الشامية» الساعية سابقاً إلى إنشاء كيان موازٍ لـ«تحرير الشام»، بدأت الأخيرة ترسم معالم خريطة السيطرة الجديدة. وتأتي هذه الخطوة تنفيذاً لأوامر تركية مباشرة تهدف إلى تحقيق مجموعة من المكتسبات، أبرزها توحيد إدارة المناطق الخارجة عن سيطرة الحكومة السورية في الشمال السوري، وإفشال المساعي الأميركية لمدّ أذرعها إلى ذلك الميدان، بالإضافة إلى خفض النفقات المالية الكبيرة التي تتكفّل بها أنقرة، وتمهيد الأرض لفتح المعابر مع مناطق سيطرة الحكومة السورية، والتي شهدت محاولة تشويش من جانب تلك الفصائل بدفعٍ أميركي.
ويَظهر في خريطة السيطرة الجديدة حرْص أنقرة على إبعاد زعيم «تحرير الشام»، أبي محمد الجولاني، بشكل صوري عن واجهة الأحداث، عبر الاستعانة بفصيل آخر مضمون الولاء هو «أحرار الشام»، الذي بدأ بتسلّم بعض المقارّ العسكرية والأمنية في عفرين ومحيطها، وفي منطقة الباب في ريف حلب الشمالي الشرقي، بموجب اتفاق لم تتمكّن «الجبهة الشامية» من رفضه بفعل الضغوط التركية من جهة، والضغوط الميدانية التي مارسها الجولاني، من جهة أخرى. وتجلّى ذلك بوضوح من خلال نشْر «الفيلق الثالث» نصّ الاتفاق الموقّع مع الجولاني، عبر حساباتها في مواقع التواصل الاجتماعي، قبل أن تقوم بحذفه. وتكشف نظرة على الاتفاق الذي جرى توقيعه في نقطة أمنية تركية حدودية مع سوريا، تحقيق الجولاني، بدفع تركي، نفوذاً كبيراً وقدرةً على إدارة المنطقة من وراء الستار. وتضمّن الاتفاق مشاركة «تحرير الشام» في عوائد المعابر التي يتمّ عبرها تهريب المشتقّات النفطية من مناطق سيطرة «قسد»، وتشكيل إدارة مشتركة، وانسحاب فصائل «الفيلق الثالث» إلى جبهات القتال مع «قسد» فقط، وعدم التمركز في المدن، وتسليم المقارً إلى «حركة أحرار الشام» التي انضمّت قبل بضعة أشهر إلى «تحرير الشام».
وإلى المكاسب الكبيرة التي حقّقها الجولاني من وراء هذا الاتفاق، ثمة نقطة مهمّة أرادت أنقرة ترسيخها، وهي تلك المتعلّقة بـ«الإدارة المشتركة» وتولّي «أحرار الشام» المسؤولية، تقضي بمنع إظهار تدخّل الجولاني في ريف حلب على أنه «توسّع بالقوّة»، وفرض سيطرة، وتصدير ما جرى على أنه اقتتال داخلي انتهى بتوافق على إدارة المنطقة، وهو ما حاولت «تحرير الشام» تأكيده أيضاً من خلال سحب بعض مقاتليها وإعادتهم إلى إدلب. يفسّر ما تقدَّم البيان الباهت الذي أصدرته «الحكومة المؤقتة» التابعة لـ«الائتلاف»، والذي اعتبرت فيه أن ما يجري لا يعدو كونه اقتتالاً بين الفصائل، من دون أن تهاجم «تحرير الشام»، بل حاولت تسويق فكرة أنها لا تزال تدير المنطقة عبر مؤسّساتها.
على رغم المكاسب الكبيرة التي حقّقها الجولاني، إلا أنه يواجه رفضاً شعبياً في ريف حلب
وعلى رغم المكاسب الكبيرة التي حقّقها الجولاني خلال بضعة أيام، يواجه الرجل ومن خلفه تركيا بضع منغّصات تتعلّق بحالة الرفض الشعبي له في ريف حلب. رفضٌ يحاول، بمساعدة تركيا، تجاوزه، من طريق بسْط حالة من الأمن الذي كان مفقوداً خلال فترة سيطرة الفصائل على المنطقة، بالإضافة إلى التحكّم ببعض مفاصل الحياة اليومية وأبرزها المخابز، وهي خطوات نجحت «تحرير الشام» فيها خلال تجارب سابقة في إدلب. وبينما ترسم خريطة السيطرة الجديدة توسّعاً كبيراً لنفوذ الجولاني يمتدّ من إدلب شمال غرب سوريا، إلى ريف حلب شمالاً، وصولاً إلى الباب في ريف حلب الشمالي الشرقي، لا تزال منطقة إعزاز خارج سيطرته الفعلية، الأمر الذي يعني أن ثمّة تحرّكاً مقبلاً في هذا الاتجاه، سواء جاء عبر قنوات التفاهم التي تقودها أنقرة، أو من طريق تقدُّم ميداني مشابه لما جرى في عفرين. ومن شأن ما تقدَّم أن يوحّد مناطق في الشمال السوري خارجة عن سيطرة الحكومة تحت قيادة موحّدة يقودها الجولاني، الذي يلعب وجماعته دور «ضابط الأمن» التركي للمنطقة، من وراء الستار.
وأمام هذه الأوضاع، يُتوقّع أن تكثّف وسائل الإعلام المعارضة، المدعومة تركيّاً، نشْر التقارير التي تؤكد انسحاب الجولاني، بالإضافة إلى تنظيم حملة تبييض لواقع المنطقة بعد التغييرات الأخيرة، في سيناريو مشابه للحملة التي قادتها لتلميع صورة إدلب في أوقات سابقة، بالتوازي مع تنشيط عمليات بناء «مدن الطوب» لإعادة ما يمكن إعادته من اللاجئين السوريين في تركيا وتوطينهم ضمن الشريط السكني الذي تبنيه تركيا في محاذاة حدودها.
في غضون ذلك، نفّذت طائرات حربية سورية وروسية غارات طاولت مقارّ تابعة للفصائل في ريف حلب الشمالي، أدت إلى مقتل وإصابة عدد من المسلّحين، بالتوازي مع سلسلة استهدافات نفّذها الجيش السوري في مناطق تمركُز مقاتلين متشدّدين في ريف إدلب. وفُسّر ما سبق على أنه إعلان بإنهاء اتفاقات سابقة أَخرجت ريف حلب من المعادلة الميدانية على خلفية تمدُّد «هيئة تحرير الشام» المصنّفة على لوائح الإرهاب العالمية، علماً أن هذا الاستهداف لا يُعدّ سابقة.
وفيما يشهد الشمال السوري تغييرات ميدانية تقودها أنقرة، تستعدّ دمشق لاستضافة اجتماع سوري – روسي لمتابعة قضيّة إعادة اللاجئين السوريين. ويشارك في الاجتماع الذي يستمرّ على مدى ثلاثة أيام، المبعوث الخاص للرئيس الروسي إلى سوريا ألكسندر لافرنتييف على رأس وفد روسي رفيع المستوى، ضمن مساعي الجانبين المشتركة لتنشيط عملية إعادة اللاجئين والتي تتمّ بالتعاون مع دول الجوار (لبنان والأردن). وتسعى موسكو إلى إشراك أنقرة في العملية ضمن المسار الذي تحاول الدفع إليه للتطبيع بين سوريا وتركيا، والذي شهد خلال الفترة الماضية لقاءات أمنية بين البلدين. في هذا الإطار، أعلنت روسيا استعدادها لاستضافة لقاء على المستوى السياسي بين وزيرَي الخارجية السوري والتركي، من دون تحديد موعد لعقده، في ظلّ التعقيدات التي تواجه التوصّل إلى أرضية مشتركة بين الطرفين، نتيجة استمرار الوجود العسكري التركي في الشمال السوري، ومواصلة أنقرة دعم الفصائل، إلى جانب قضايا أخرى تتعلّق بالمياه، أعلنت دمشق أنه يجب حلُّها قبل الدخول في حوار مباشر.
سيرياهوم نيوز3 – الأخبار