لربما لا يوجد من تفسير يبرر إمساك رجب أردوغان بعود ثقابه مهدداً بالاقتراب أكثر من برميل البارود الرابض في بحر إيجة وشرق المتوسط الآن، سوى تصدع الوضع الداخلي التركي الذي برز فيه مؤخراً تصدعان كبيران، أولهما التهتك الحاصل في نسيج حزب “العدالة والتنمية” الحاكم والذي تمظهر في خروج حزبين جديدين من رحمه في غضون الأشهر القليلة المقبلة، حيث من المقدر لهذا الفعل الأخير أن يكون قد أدى إلى خسارة ما يقرب من 30 % من القاعدة الشعبية التي يملكها الحزب، والأهم هو أن هذا الفقد كان قد تحول إلى معارضة في حالة نشطة تبدي كماً من الحيوية يفوق -كما يبدو- تلك التي يملكها حزب الشعب الجمهوري المعارض التقليدي لحكم “الإسلام السياسي”، لكن الأخطر هو أنها تمثل حالة تمرد على وضع الكمون الذي فرضه أردوغان على معارضيه، حيث للتمرد هنا تأثير مزدوج لاعتبارات تتعلق بخروجه من رحم واحد وهو يملك “الجينات” نفسها، وثانيهما التراجع الحاصل في الوضع الاقتصادي الذي تقول مؤشراته أنه يمر بأسوأ حالاته منذ وصول حزب “العدالة والتنمية” إلى السلطة في تركيا عام 2002، حيث من المؤكد أن النجاحات الاقتصادية التي شهدتها تركيا بالتزامن مع هذا التاريخ الأخير كانت قد شكلت رافعة لحكم الحزب على امتداد ثمانية عشر عاماً لا تزال مستمرة حتى الآن.
من المؤكد أن هذا التشخيص سابق الذكر هو الذي دفع بأردوغان نحو محاولات التمدد في الخارج خصوصاً في ليبيا وفي ملف التنقيب عن النفط والغاز في بحري إيجة والمتوسط، حيث يرى القائم بالفعل أن تلك النزعة يمكن لها أن تؤدي إلى شد عصب الجبهة الداخلية عبر الإيحاء بأن “المصالح التركية مهددة في الخارج”، بل “مهددة من عدو تاريخي هو اليونان”، إذ لا يمكن بحال من الأحوال الرهان على تحقيق مكتسبات من وراء هذا التصعيد الذي لن يفضي إلا إلى مزيد من العزلة التركية التي ستؤدي بالضرورة إلى تداعيات خطرة على وضع داخلي يزداد هشاشة يوماً بعد يوم، ومن المؤكد أن أردوغان يبدو مدركاً لحقيقة أن التوازنات الإقليمية والدولية التي سيرسمها التوتر الذي افتعله قبيل أن تتبلور هذه الأخيرة بشكل جلي عبر الإعلان عن قيام فرنسا وإيطاليا وقبرص بمناورات عسكرية مشتركة في المتوسط أواخر الشهر المنصرم، ولا يمثل هنا ركوب أردوغان لموجة التصعيد من جديد عبر الإعلان عن مناورات تركية نظيرة مطلع هذا الشهر، والذي وصل حدود إلقائه خطاباً نارياً في الذكرى الـ949 لمعركة “ملاذ كرد” بين الدولة السلجوقية والإمبراطورية البيزنطية, داعياً اليونان في ذلك الخطاب إلى تجنب أي خطأ يمكن أن يؤدي إلى “خرابها”، لا يمثل هذا الركوب مظهراً من مظاهر القوة، بل على العكس من ذلك فهو يدل على واقع داخلي مأزوم اقتضى الذهاب إلى تصعيد خارجي بدا ملحاً “لتحسين شروط التفاوض”، إذ لا يعقل أن أردوغان ليس مدركاً لحقيقة أن نتائج المعركة مع اليونان -فيما لو حصلت- لن تكون مرهونة فقط بتوازن القوى القائم راهناً فيما بين أنقرة وأثينا، فدول مثل فرنسا وإيطاليا بالدرجة الأولى وألمانيا بدرجة ثانية ستجد نفسها فيما لو وقع المحظور أمام خط دفاعها الأخير عن أمنها المهدد بتمددات تركية نحو حدودها، مع الإشارة إلى تخوف أوروبي ظهر فاقعاً منذ ثلاثة عقود على الأقل من تلك التمددات “بطبعتها السلمية” عندما رفضت القارة الأوروبية برمتها فكرة الانضمام التركي إلى الاتحاد الأوروبي، فكيف والأمر إذا ما كانت الطبعة، أي طبعة تلك التمددات، عسكرية الآن؟
يبدو أن رهان أنقرة الذي سيكون حاكماً لسياساتها في سلوكها لسياسة التصعيد أو التهدئة منصب الآن بدرجة كبيرة على تقدير الموقف الأمريكي الذي لا يبدو متبلوراً حتى الآن، على الرغم من أن مساعد وزير الخارجية الأمريكي للشؤون الأوروبية فيليب ريكر كان قد قال قبل أيام “إن سياسة تركيا في بحر إيجة وشرق المتوسط تهدد وحدة ناتو” وما يجعل هذا التصريح حمال أوجه هو أن ريكر كان قد وضع السياسات التركية في إطار تهديد وحدة “ناتو” الذي لا تعيره إدارة ترامب الكثير من الاهتمام، ولم يقل أنها تهدد الأمن الإقليمي والدولي الذي لا تستطيع واشنطن الوقوف حيادية تجاهه لاعتبارات عديدة.
لكن ألا يجب أن يوضع هنا احتمال يبدو قائماً بل ملحاً هو أن تكون هذه الأخيرة، أي واشنطن، قد قررت نصب فخ على نحو ما فعلته أبريل غلاسبي السفيرة الأمريكية في بغداد لصدام حسين، والذي قاد نحو غزو هذا الأخير للكويت في آب العام 1990، خصوصاً أن موجبات هكذا فعل، أي نصب الفخ، تبدو عديدة بدءاً من استقبال أنقرة لصواريخ “إس400 الروسية”، وصولاً إلى الافتراقات الحاصلة بين الجانبين التركي والأمريكي في إطار ممارساتهما الإجرامية في الجزيرة السورية وافتراقاتهما في الملف الليبي بدرجة أقل.
(سيرياهوم نيوز-تشرين4-9-2020)