آخر الأخبار
الرئيسية » كتاب وآراء » المهاجرون إلى أوروبا: اليمين المتطرف من أمامكم وأسباب الهجرة من خلفكم

المهاجرون إلى أوروبا: اليمين المتطرف من أمامكم وأسباب الهجرة من خلفكم

د. عبد الحميد فجر سلوم

لا يخفى أنّ ملايين الشباب من دول الجنوب (العالم الثالث) قد هاجروا من بُلدانهم إلى دول الشمال الغنية والمزدهرة.. وملايين آخرين ينتظرون أو يتحينون الفُرصة كي يُهاجِروا، من أمريكا الجنوبية والوُسطى والبحر الكاريبي إلى الولايات المتحدة، ومن دول أفريقيا والوطن العربي (إن ما استثنينا دول الخليج) ومن جنوب آسيا نحو أوروبا، بحثا عن مُستقبلٍ مفقودٍ في بُلدانهم، وأملا في بدايةِ حياةٍ جديدة ومُستقبلٍ جديد فيه مقومات الحياة الحرّة والكريمة..

غالبية أولئك لم يكونوا مُضطرِّين لو كانت هناك حكومات وطنية شريفة وأمينة وصادقة وتعملُ بجدٍّ وكدٍّ في سبيل هذه الشعوب.. ولكن الله ابتلاها بحكومات فاسدة ومسؤولين فاسدين طموحهم الأول من الوصول للسلطة ليس خدمة الأوطان والشعوب وإنما خدمة الجيوب أوّلا، والثراء بأيِّ طريقةٍ مُمكنة وعلى حساب الأوطان والشعوب..

ad

وخاصّة حينما نرى مُهاجرين من بُلدانٍ غنيةٍ بموارد الطاقة، كما فنزويلا والجزائر وليبيا والعراق، وتكفي ثرواتها ليعيش في كلٍّ منها عشرة اضعاف سكانها برفاهيةٍ غير موجودةٍ في دول الخليج العربي ولا في سنغافورة أو ماليزيا أو كوريا الجنوبية أو اليابان..

**

اسبابٌ عديدة جدا للهجرة، وقد لا تكون الأسباب الاقتصادية والمعيشية من فقرٍ وبطالةٍ  هي كلها، وإنما هناكَ اسبابٌ تتعلق بالاضطهاد والاستبداد والفساد والطائفية والحروب والفوضى وشرائع الغاب وانسداد آفاق المُستقبل، أو بحثا عن العِلم المتقدم والتخصصات العلمية، وبحثا عن دُول القانون والمؤسسات، وعن الحرية التي يعيشونها إلى درجةِ التّرف في الغرب.. لاسيما أنهم لا يرون في كل دول الشمال (أي دول الغرب، بشقّيهِ الأوروبي والأمريكي) مواطنا واحدا مسجونا بسببِ آرائهِ وأفكارهِ، أو هاربا ومُلاحَقَا، بسبب ذلك، والسجون هي فقط للمُرتكبين والمُجرمين.. بل المُعارضَة حاجة وطنية مطلوبة جدا، وتقومُ على تنافُس وطنيٍ شريف، وغاية الجميع تقديم أفضل ما يُمكن لأوطانهم وشعوبهم.. حتى في غالبية هذه الدول يجب على رئيس الحكومة أن يجتمع بين الفينةِ والأُخرى، مع زعيم المُعارضَة ويُقدِّم له عرضا عمّا أنجزه وعمّا يُخطِّط له، ويتناقش الطرفان بكل روح وطنية مسؤولة طالما الهدف المُشترك هو ذاتهُ: خدمة الشعب والوطن، وكلٍّ من زاويتهِ ووجهةِ نظرهِ التي يُلخِّصها في برامجٍ واسعة وعامّة وواضحةٍ وشاملة في كافة الاتجاهات، وتُترَكُ الحرية للشعب لاختيار أفضل ما يراه من هذه البرامج ويُصوِّت لأصحابها.. وهكذا يتداولون السُلطة بناء على اختيار الشعب وبعيدا عن كل أشكال العنف والاقتتال والاحتكار..

**

هذه الحُرية الواسعة هي من أعطت الفُرصة للأحزاب اليمينية، وحتى اليمينية المُتطرِّفة مؤخّرا، للوصول إلى السُلطة في العديد من البُلدان الأوروبية..

ولكن الشعب الذي أوصلها هو كفيلُ بعزلها حينما تفشل في تقديمِ الحلول المطلوبة لمشاكلهِ وحاجياتهِ، وتفشل في تنفيذ البرامج التي بموجبها انتخبها الشعب.. ومن هُنا فإن القول بأن الديمقراطيات البرلمانية في الغرب تُصحِّحُ نفسها بنفسها، ربما هو قولٌ صحيح..

**

أحزابُ اليمين المتطرف ليست بجديدة على الساحة الأوروبية، فقد وُجِدت منذُ زمنٍ.. وكان أبرزها في العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي، النازية والفاشية..

وحتى بعد القضاء على النازية والفاشية استمرّت هناك أحزاب ذاتُ سياساتٍ يمينيةٍ تقليدية على صعيد البرامج الداخلية، من النواحي الاقتصادية والسياسية والخُطط المعيشية والصحية والعَمالة والتوظيف.. الخ.. وأحزابٌ يسارية، ولكن ليس بالمفهوم الماركسي، وإنما لِجهةِ الخُطط المعيشية والضمان الصحي والرعاية الصحية والضرائب والعمل.. وسواها..

بل بعض الأحزاب الاشتراكية في دول الشمال الأوروبي، حقّقت عدالة اجتماعية لشعوبها، وحياة كريمة للطبقات المتوسطة، والفقيرة (إن صحّ التعبير) والباطلين عن العمل، أفضل بأضعافٍ من الاشتراكيات الماركسية..

وحتى داخل هذه الأحزاب كانت هناك دوما تيارات، كما تيار الوسط، ويمين الوسط، ويسار الوسط.. وهكذا..

**

ولكن مع بداية التسعينيات، بدأت أحزاب أقصى اليمين، ذات التطرُّف الراديكالي، والتعصُّب القومي والآيديولوجيا الشوفينية، تحقق انتصارات في الانتخابات البلدية والبرلمانية والرئاسية، وانتخابات البرلمان الأوروبي.. وهذه ظاهرة لم تكُن أوروبا تعرفها..

أسباب عديدة حول تقدُّم هذه الأحزاب وقبولها شعبيا، بعد أن كانت مرفوضة، أهمها هي الإسلاموفوبيا، أو ظاهرة الخوف من الإسلام، التي بدأت تجتاحُ أوروبا بقوة في العقود الأخيرة، لاسيما بعد ظهور التنظيمات الإسلامية الراديكالية والقيام بأعمال إجرامية وإرهابية في الغرب وفي الشرق، وأعطت أبشع صورة عن الإسلام، وزيادة الهجرة، لاسيما في السنوات الأخيرة، لأوروبا، حتى باتت المُجتمعات الأوروبية تخشى على هويتها الُمجتمعية والثقافية والعددية، لاسيما أنها مجتمعات قليلة الإنجاب..

فضلا عن الفشل في جوانب عديدة بالخطط والبرامج الاقتصادية والاجتماعية والصحية، للأحزاب التقليدية.. فباتَ هناك مَيلا لدى الناخبين لتجربة هذا اليمين القومي المتطرف..

ولا يُخفي رئيس وزراء المجر اليميني المُتطرّف “فيكتور أوربان” زعيم الحزب اليميني (الحزب المدني المجري، فيديس) عدائهُ للمهاجرين واللّاجئين، من الدول الإسلامية خصوصا.. ويُعادي الاختلاط بين الأعراق.. وسبق وصرّح قائلا: “إن البُلدان التي تعيش فيها شعوبٌ أوروبية، ومن خارج أوروبا لم تعُد أُمما وإنما تجمعات شعوب”..

طبعا لا يُمكن أن نلوم موقف فيكتور أوربان، ولا أي يميني متطرف في الغرب، من المُهاجرين المُسلمين، فالدول الإسلامية الخليجية الغنية هي ذاتها لا تستقبل هؤلاء المُهاجرين.. والمُسلمين أشدُّ عداء لبعض، وليست مُهمّة أوروبا إيجاد حلول لمشاكلهم، فهذه مهمة بُلدانهم وحكوماتهم.. ويُسجّلُ لها هذه الحالة من الإنسانية أنها تستقبلهم وسمحت ببناء آلاف المساجد لهم في هذا الغرب، وكثيرون صاروا وزراء وأعضاء برلمانات ورجال أعمال وأصحاب شركات، بينما لا يُسمَح ببناء كنيسة واحدة في بعض الدول الإسلامية..

**

اليمين المتطرِّف عموما في أوروبا يتقاطعُ بالعديد من الأفكار.. وعدا عن الكراهية للأجانب، والعداء للمهاجرين واللّاجئين والهجرة، فهو مُتعصِّب لقوميتهِ وشوفيني، وغير مُتحمِّس لهذا الاتحاد الأوروبي ويعتبرهُ إنقاصا من سيادة الدول، وكلٍّ منهم يرفع شعار (بلادي أولا)، وغير مُتحمّس حتى للأنظمة الديمقراطية البرلمانية والليبرالية، ولا للعولَمة، بل أنّ زعيمة حزب اليمين الإيطالي المتطرف أخوة أو (أخوان إيطاليا) جيورجيا ميلوني، المتأثرة جدا بأفكار هتلر وموسوليني، تدعو إلى الزعامة الفردية (على غرار زعامة موسولني وهتلر) وتعتقد بِنقاء العِرق الإيطالي.. وتؤمن بنظرية موسوليني الفاشية في الحُكم، أي مركزية الحُكم وأن يكون هناك زعيم واحد والولاء المُطلق للزعيم..

وفي كثير من الأحيان تبدو متناقضة، ففي وقتٍ ما انتقدت إسرائيل، ثم عادت لتؤكِّد على دعمها لإسرائيل، والسعي لإبعاد حزبها عن جذورهِ الفاشية بالأساس، كنوعٍ من التطمين لإسرائيل..

وفي مسعى لتبديد المخاوف الأوروبية والأمريكية، فقد أعربت عن دعمها لأوكرانيا ضد روسيا في الحرب الدائرة..

**

ولا نُبالِغ إن قُلنا أنه لا يوجد اليوم بلدا واحدا في أوربا، لا شرقها ولا غربها، وإلا فيه أحزاب يمينية متطرفة، بنسبةٍ أو بأخرى.. وحتى في البُلدان الشيوعية السابقة، كانت هناك ردّة نحو التعصب القومي والالتزام الديني.. والشيوعي الذي كان يُؤمنُ بِآيديولوجيةِ أُممية البروليتاريا، العابرة للقوميات، بات مُتعصبا لقوميتهِ.. والذي كان لا يُؤمنُ بالدين بات يرتادُ الكنيسة ويتحالفُ مع رجال الدين، والأمثلة كثيرة في روسيا وغيرها.. والذي كان متأثِّرا جدا بأفكار كارل ماركس في كتابهِ “رأس المال”، الذي وضع أُسُس الاقتصاد السياسي الماركسي، أصبح من كبار رجال الأعمال والأثرياء، ويؤمن بالنظرية الرأسمالية في اقتصاد السُوق الحُر.. ونسُوا كافة تلك الآيديولوجيات والنظريات الماركسية في المادّية التاريخية، والمادية الدياليتيكية، أو الجدلية، ونظرياتها وقوانينها، التي دافعوا عنها على مدى عقود طويلة.. ومن بقي مُتمسِّكا بتلك النظريات، فهُم قِلّةٌ قليلة..

ويُمكن أن أقول أن بذور العنصرية لدى بعض المتطرفين لمستها في العديد من الدول الشيوعية، حتى في زمن الشيوعية.. وأعتقد من درسوا في تلك البُلدان لمسوا ذلك.. ولكن كانت حالات خاصّة لا تُعبِّر عن رأي الحكومات..

**

الانتخابات التي جرت مؤخّرا في إيطاليا، وقبلها في السويد، وقبلها في هنغاريا، كلها توضِّح الميول الشعبوية نحو اليمين، وليس اليمين التقليدي المعروف، وإنما اليمين المُتطرِّف المُستنِد على العقيدة الفاشية.. ومما ساعد على ذلك أزمة الطاقة في أوروبا بعد حرب أوكرانيا، وما نجم عنها من انعكاسات سلبية على الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، من غلاءٍ في الأسعار والتضخُّم والتقشُّف..

بل اليهود في أوروبا ذهبوا بغالبيتهم نحو هذا اليمين المتطرف.. مع أن هناك منها من يُؤخَذ عليه أنه مُعادٍ للسامية بطريقةٍ أو بأخرى.. وربما هذا كان نتيجة بعض التصريحات بالماضي، أما اليوم فهذه الأحزاب تتسابق لكسبِ أصوات اليهود، كما حزب “ماري لوبين” في فرنسا، وفي النمسا، وغيرها..

ولاستبعاد أي فكرة عن معاداة اليمين الأوروبي للسامية، كما كان الانطباع بالماضي، فقد اتّجه هذا اليمين نحو سياسات مؤيِّدة لإسرائيل، وتمّ استبدال المعاداة للسامية، بالعداء للأصولية الإسلامية[H1] ، والإسلاموفوبيا، أو الخوف من الإسلام.. وهذا قاسم مشترك بينهما..

ورئيس وزراء المجر أوربان طالما تباهى بصداقته لرئيس وزراء إسرائيل نتنياهو، وللرئيس دونالد ترامب..

وكان رئيس وزراء إسرائيل الحالي (يائير لابيد) أول من هنّأ السيدة ميلوني المتطرفة بعد أداء القسم كرئيسة وزراء لإيطاليا..

ولا ننسى عبارة دونالد ترامب الشهيرة أمام المجلس الوطني الأمريكي الإسرائيلي عام 2019، حينما قال لهم، لو ترشحتُ رئيس وزراء لإسرائيل لنجحتُ، لشدة دعمه لها..

**

هذا اليمين المتطرف إن حكَم طويلا، ونجحت برامجهُ ضد الهجرة والمهاجرين، وسواها، فسوف يكون كارثة على المُهاجرين واللّاجئين، لا سيما من البُلدان العربية والإسلامية.. وقبل كل ذلك سيكون كارثة على أوروبا نفسها..

وسوف يتذكرون كثيرا (ماما ميركل) التي طالما تحدثت عن “روح أوروبا الإنسانية” حيال مسألة الهجرة واللجوء..

فهل ستفقد أوروبا هذه الروح مع صعود اليمين المتطرِّف، ويُصبِح المهاجرون واللّاجئون أمام خيارين لا ثالث لهما: إما العودة إلى بُلدانهم التي هاجروا منها، وإما العنصرية والكراهية من اليمين المتطرف، والعض على الجراح والصبر على قاعدة: إنّ ما أحاجكَ للمُر هو الأمرَّ منه؟.

نأمل أن يكون هذا اليمين المتطرِّف مُجرّد موجة عابرة تنتهي مع نهاية الحرب في أوكرانيا، وهذا ما اعتقدهُ.. فليست هي أوّل موجة لهذا اليمين..

سيرياهوم نيوز 6 – رأي اليوم

x

‎قد يُعجبك أيضاً

بعد الفيتو الامريكي على وقف القتل: خطوتان مجديتان

  ا. د. جورج جبور       الخطوة الأولى: *انتقال صلاحيات مجلس الأمن الى الحمعية العامة بموحب قرار التوحد من أجل السلم. يتخذ قرار ...