| موسى جرادات
«يا ابني تذكّر! هنا صلب الإنكليز
أباك على شوك صبارة ليلتين
ولم يعترف أبداً. سوف تكبر يا
ابني وتروي لمن يرثون بنادقهم
سيرة الدم فوق الحديد»
يلخّص محمود درويش، في قصيدة «أبدُ الصبار» من ديوان «لماذا تركت الحصان وحيداً»، ما جرى للشعب الفلسطيني أثناء النكبة، ويعرّج على المقدّمات التي أوصلتنا لها. قصيدته ليست مجازاً، إنها تدوين لأحداث جرت، وثقت سلوك المحتل البريطاني. الآلاف من الفلسطينيين، وطوال سنوات الانتداب، تم سوقهم حفاة على شوك الصبار، بحثاً عن معلومة سريعة تفيد بمكان اختباء الثوار. والضحايا المعذَّبون هم فلاحو القرى الفلسطينية. يكفي أن تكون فلسطينياً، وتعيش في منطقة تعرّضت لهجمات الثوار، أن تتعرّض لهذه التجربة من العذاب القاسي. ولم يكتف بذلك، بل كان يقدم على اقتحام البيوت، والعبث بمحتوياتها، يخلط المواد التموينية ببعضها، يسكب الزيت على الطحين، ويخرج من البيت بعد أن أحدث الخراب فيه. ولا غرابة أن الاحتلال اليوم يقوم بالسلوك نفسه، فهو الوريث الفعلي لمن ربّاه، والهدف من هذا كله هو ضرب البيئة الحاضنة للثورة، لإبعادها عن المنخرطين بها، وصنع معادلة تقول: إن التعاطف مع الفعل الثوري مكلف، ويزيد عليه أحياناً باستهداف المدنيين وقتلهم، ضمن سياسة معتمدة مسبقاً، هدفها دب الرعب بالجميع.
في نهاية الحرب العالمية الأولى، قرّرت الدول المنتصرة، بريطانيا وفرنسا، اقتسام العالم، ولأنهما الأقوى في عصبة الأمم، اشتغلوا على صناعة خطاب حضاري، ليبرروا فعلتهم، خطاب الوصي على الأمم المغلوبة. الانتداب هو اللفظ الاستعماري المخفف، لسرقة الأرض، وفي حالتنا الفلسطينية، تقديمها في ما بعد للغير بلا وجه حق. الانتداب الذي ادعى أن فعله أخلاقي، قام طوال الوقت، بالهدم والقتل والتشريد، سنّ القوانين التي حرمت الفلسطيني من كل مقومات الحياة، ومع هذا واصل الادعاء أنه يريد أن نصبح أمة متحضرة، فاستخدم من أجل هذا «التحضير» سلسلة من أدوات القهر المنظم، مارسها طوال ثلاثة عقود متواصلة، فالعقاب جاهز لمن لا ينصاع.
التاريخ الفلسطيني مع الانتداب حافل، بكل أشكال التنكيل، من حصار المدن والأرياف، وارتكاب المجازر بحق المدنيين العزل، ونسف وهدم البيوت، إلى الإبعاد والاعتقال التعسفي، والإداري، والإقامة الجبرية، والاعتقال المنزلي، وبناء السجون، على امتداد أرض فلسطين. قطعوا أشواطاً في التعذيب، تفننوا في هذا المجال، وبلغوا الذروة باقتلاع الأظافر، وحرق المعتقلين، بوحشية قل نظيرها، وفوق هذا كله، جهزوا البلاد لتكون «وطناً قومياً» للغرباء، ليس فقط عبر الصكوك القانونية، بل بالتحضير العملي لتنفيذ هذا الصك، عبر إقامة البنى التحتية، والطرق والجسور، حتى قال بعض المؤرخين، إن لحظة انسحاب البريطانيين من فلسطين، كانت لحظة كاملة، حيث تسلم الصهاينة البلاد، وفيها مستلزمات قيام دولتهم كافة.
وبموجب قوانين الانتداب التي لا تزال فاعلة حتى هذا اليوم، ما زال الفلسطيني يعيش تحت نظم عسكرية، لا تعترف بإنسانيته على الإطلاق، فيما العالم المتحضر، كما يدعي، يشاهد ذلك ولا يفعل أي شيء. لا عقوبة لهذه الدولة الخارجة عن القانون، ملفات الجرائم الصهيونية تحفظ دوماً في الأدراج، كما أن إسرائيل لا تقبل بالمؤسسات الدولية المعنية بحقوق الإنسان، والذريعة دوماً أن المشتكي لا يتمثّل بدولة، وهذا يعني أن الفلسطيني، كفرد وجماعة ومؤسسات، لا يحق له تقديم الشكوى.
المحتل المنتدب، بنى لنا السجون. في كل مدينة من البلاد، تجد سجناً، من عكا شمالاً وحتى النقب جنوباً، ورثها الصهاينة، وزادوا عليها
هذه الدولة الاستعمارية، منذ قيامها وحتى هذه اللحظة، تغطي مؤسساتها العسكرية والأمنية أفعال المستوطنين الإجرامية بحق الفلسطيني، وكلها تأتي بادعاء «الدفاع عن النفس»، فالقاتل في عرف الاحتلال يتجوّل حراً طليقاً، طالما كانت الضحية هويتها فلسطينية.
قبل 105 أعوام، كانت فلسطين على موعد غيّر أقدارها، وعد بلفور الذي بموجبه نقلت بريطانيا المنتصرة في الحرب الأولى ملكية فلسطين لليهود الذين لم تكن تتعدى نسبتهم في فلسطين الـ 5% في ذلك الوقت، أعطاهم الحق في تقرير المصير، لتلقي بشعب توارث الأرض عن الأهل الكنعانيين، على قارعة الطريق. منذ ذلك الوقت، وحتى يومنا هذا، والفلسطيني يصارع السفاح، في معركة مفتوحة معه، من دون أن يملك من أدوات الصراع، سوى الحق، وإرادة الكفاح المشروع.
المحتل المنتدب، بنى لنا السجون. في كل مدينة من البلاد، تجد سجناً، من عكا شمالاً وحتى النقب جنوباً، ورّثها الصهاينة، وزادوا عليها، وأخذوا دفاتره، التي احتوت المعلومات والوثائق عن الأراضي وأهلها، الأديان، المذاهب، الطوائف، التقسيمات الاجتماعية، أبنيتنا، مقدراتنا العلمية، مكتباتنا، كل شيء. وفي رواية الأجداد أن المحتل الصهيوني بعد النكبة في العام 48، والنكسة في العام 67، راجعهم بقضايا ومعلومات شخصية، قبل قيام دولة الاحتلال.
بين المنتدب والمحتل
قرنٌ وزيادة والعالم «المتحضر» يرى كل هذا الألم والتشريد والقتل ونسف وهدم البيوت، وأسر شعب بأكمله، من دون أن يحرّك ساكناً، بل تحالف مع القاتل ضد الضحية؛ الأوروبي بابه الاقتصادي، حيث يعيش المحتل على سوق أوروبية مفتوحة على مصراعيها أمامه، جعلته من أقوى الدول الاقتصادية في المنطقة، وأميركا تزوّده بالمال والعتاد وتغطيه في المحافل الدولية.
105 أعوام من الإنكار
بريطانيا «العظمى»، حتى هذا الوقت لا تريد الاعتذار، بالأمس قنصلياتها في القدس رفضت قبول عريضة احتجاج قدمها فلسطينيون، هي لا تريد حتى الاستماع، وفلسطين ما زالت امتحان الجميع، والرافض لصدى صوتها شريك المحتل في الجريمة.
يطوى قرن ويفتح آخر، وبلفور المقبور في رسالته، حي، ولن يموت إلا بعد دفن الوعد وصاحبه، عندها تعود الحكاية إلى أصلها.