| عبد المنعم علي عيسى
على الرغم من تراجع «هيئة تحرير الشام» عن الإطباق المباشر على عفرين التي دخلتها الشهر الماضي في سياق معطى تركي كان يريد توحيد مناطق سيطرة الفصائل المعارضة تحت راية القرار التركي في محاولة لتدعيم أوراقها قبيل أن تدق ساعة الاستحقاق مع دمشق، وكذا لفرض واقع تتحسب له موسكو التي تعمل على تقريب تلك الساعة، حيث التراجع هنا يشير إلى رفض روسي أميركي ينحصر في سياق تقاطع الأهداف من دون وجود أي احتمال لوجود تنسيق بين الطرفين يختص بذلك الرفض، فالتراجع إياه يكاد يكون شكلياً انطلاقاً من أن «هيئة تحرير الشام» لم تفعل إلا بعد أن اصطنعت التركيبة اللازمة لدوام الإطباق غير المباشر على المناطق التي اجتاحتها ثم انسحبت منها وفي قلبها عفرين.
نقول على الرغم من ذلك التراجع، الذي يوحي بإمكان استعادة المنطقة للاستقرار النسبي الذي شهدته منذ آذار 2020، إلا أن هناك العديد من المؤشرات التي تراكمت في غضون الأسابيع القليلة الماضية، وهي في مجملها تشير إلى إمكان أن تشهد مناطق الشمال السوري توتراً من النوع الذي يخرجها عن «استقرارها» ذاك، والذي قد يفضي في النهاية إلى تغيير في خرائط السيطرة التي باتت حدود التماس فيها تشي بحال الاستعداد لحدوث التغيير آنف الذكر.
أولى تلك المؤشرات وأبرزها هي الاشتباكات الحاصلة ما بين الجيش العربي السوري وبين فصائل المعارضة والتي تركزت مؤخراً على محاور جبهة الأتارب في الجنوب الغربي من حلب، وما تشي به محاولات الجيش المتكررة في تلك الجبهة هو أن الأخير يعمل على إحداث خرق في هذه الأخيرة، وللفعل مرميان أولاهما أن الجيش يسعى لكشف مواطن الضعف في دفاعات الفصائل المسيطرة على تلك الجبهة، أما ثانيهما فيكمن في أن العمل برمته يصبح أشبه بعملية «جس نبض» روسية- سورية مشتركة تصبح لازمة إذا ما قررت موسكو في لحظة من اللحظات القيام بعملية خلط أوراق مع تركيا في الشمال، وبمعنى آخر إذا ما قررت موسكو، دعم عملية عسكرية للجيش العربي السوري تنطلق من جبهة الأتارب، المنكشفة في مناطق ضعفها، ثم يكون منتهاها بالسيطرة على باب الهوى عند الحدود مع تركيا، والفعل الذي لا يزال افتراضياً، مع وجود ترجيحات لإمكان حدوثه، سوف يهدف إلى إجبار أنقرة على تقديم تنازلات لروسيا من جهة، ثم يهدف إلى توسع مناطق سيادة الجيش على أرضه، وهو أمر، فيما لو حدث، فإنه سيعني انهياراً لاتفاق خفض التصعيد الذي خضعت له المنطقة قبل نحو أكثر من عامين، ولسوف يكون مقدمة لتغيير مهم في مسار «أستانا» الذي يجمع ثالوث موسكو وأنقرة وطهران إن لم تكن هناك توافقات تحتوي ضمناً على «قبض أثمان» من هنا أو هناك.
ثاني المؤشرات تمظهر في محاولات «قسد» نسف الجهود التركية الرامية لإنشاء «منطقة آمنة» يمكن لأنقرة من خلالها «توطين» ما بين 1.5 – 2 مليون لاجئ سوري، الورقة التي تبدو شديدة الأهمية للنظام التركي الذي يبدو «خائفاً» للمرة الأولى مما ستفضي إليه انتخابات حزيران من العام القادم، حيث الخوف هنا سيدفع بالضرورة نحو تعطيل الملفات التي تعتد بها المعارضة التركية والتي تمثل ورقة اللاجئين السوريين على الأراضي التركية واحدة من أبرزها، والمؤكد هو أن محاولات «قسد» آنفة الذكر تحظى بدعم أميركي- روسي- سوري، من دون أن يعني ذلك أيضاً وجود أي نوع من التنسيق فيما بين أطراف ذلك الثالوث الداعم لمحاولات الفصيل سابق الذكر، واللافت هو أن هذا الأخير كان قد مضى مؤخراً نحو استهداف مناطق «درع الفرات» و«غصن الزيتون» بما يهدد بإمكان لجوء أنقرة إلى عملية عسكرية واسعة على وقع الاحتياج الداخلي حتى ولو كانت هذه الأخيرة خارج المظلتين الروسية والأميركية على حد سواء، الأمر الذي لاحت تباشيره قبل نحو عام ثم ارتدعت عنه أنقرة بضغط مزدوج أميركي- روسي، وفي حينها سعت «قسد» إلى تجييش بأقصى ما تستطيع للحؤول من دون وقوع الفعل، لكنها الآن باتت ترى، وتسعى كما يبدو، إلى دفع أنقرة للقيام بعمل عسكري سوف يحشرها في زاوية ضيقة تبعاً لمعطيات راهنة ناجمة عن التداعيات التي تركتها الحرب الأوكرانية، وربما كانت قراءة «قسد» هنا تقوم على أن عملاً عسكرياً تركياً، فيما لو حدث، فلسوف تأتي رياحه بمكاسب قد يكون من بينها «استعادة» عفرين التي تشير إليها أدبيات الفصيل الانفصالي على أنها محورية بدرجة تستدعي القيام «بأي شيء» لأجل تلك «الاستعادة».
ثالث المؤشرات، والمرتبط عضوياً بالمؤشر الثاني وإن كان لا يخلو أيضاً من خصوصية لها اعتباراتها، هو قيام «قسد» بقصف مناطق عدة في محيط عفرين ودارة عزة شمال غرب حلب، في حدث يشي بأنها تسعى إلى دعم فصيل في مواجهة آخر في سياق التناحر الدائر ما بين الفصائل المسيطرة على الشمال السوري، وهو أمر لا بد وأن تفهمه أنقرة على أنه استفزازي بدرجة تدعم الفرضية السابقة التي تقول إن لـ«قسد» مصلحة راهنة في قيام أنقرة بعمل عسكري واسع سيكون مرتكزه في الشمال، لا الشمال الشرقي، أقله في حساباتها.
حسابات «قسد» هي أقرب للمغامرة من أي شيء آخر، أما الحسابات التركية فهي تظل رهينة التوازنات الداخلية التي أصبحت الآن كما بيضة القبان في صناعة القرار، والثابت الآن هو أن أنقرة استطاعت أن تصبح اللاعب الأكثر أهمية على الساحة السورية ما بعد شباط 2022، أما حسابات دمشق فتقول: ليترك «القدْر» حتى يغلي فيتبين درجة استواء ما فيه، لكن هذا سيظل صحيحا فقط قبيل أن يتوجب شق ورقة الروزنامة التي تشير إلى يوم 18 حزيران 2023.
سيرياهوم نيوز3 – الوطن