الرئيسية » حول العالم » شولتز يُحيي إرث ميركل: لن نُعادي بكين

شولتز يُحيي إرث ميركل: لن نُعادي بكين

| سعيد محمد

لندن | في خطوة تاريخية أثارت عواصف من الجدل، أصبح المستشار الألماني أولاف شولتز، أوّل زعيم غربي كبير يزور الصين منذ أكثر من عامَين، ويلتقي زعيمها المتوَّج شي جين بينغ، مصطحباً معه وفداً ثقيلاً من قادة الشركات الألمانية الكبرى. وعلى الرغم من الصراخ الهستيري ضدّ بكين من قِبل شركاء شولتز في الائتلاف الحاكم في ألمانيا، وامتعاض واشنطن وبروكسل، إلّا أن استراتيجية تثبيت علاقات برلين مع القطب الآسيوي الصاعد، باتت بمثابة ضرورة لاقتصادها الذي يعيش واحدة من أسوأ مراحله، بعد أن اختار ساسة البلاد الانخراط في الحملة الأميركية ضدّ روسيا، والتخلّي عن موارد الطاقة الرخيصة الآتية من الأخيرة

معالم التحالف الجديد ظهرت ابتداءً في خطابٍ لشولتز ألقاه الشهر الماضي أمام مؤتمر لرجال الأعمال، قال فيه «إن فكّ الارتباط بالصين هو الإجابة الخاطئة»، محذراً من العواقب السلبية لركوب موجة قطْع العلاقات مع بكين. وجاء تمرير اتفاق ميناء الحاويات، لاحقاً، بمثابة ترجمة لذلك الموقف، وبداية لتوجّه براغماتي لحماية العلاقات الاستراتيجية مع الصين من تقلّبات السياسات. وإذ ستحاول بعض وزارات الحكومة الجديدة تعطيل هذا التوجّه عبر الحدّ من دعمها لتوسّع الشركات الألمانية في الأسواق الناشئة عندما يتعلّق الأمر بالاستثمار في الصين، إلّا أن مراقبين يرون أن الشركات الكبرى لا تجد مكاناً آخر لتذهب إليه، وأنها ستفعل ما تريد بضمانات من الحكومة أو من دونها. وفي الحقيقة، فإن الصناعة الألمانية تدرك أكثر من غيرها خطورة العبث بالعلاقات مع بكين؛ إذ إن عملاق الكيمياويات الألماني «باسف»، مثلاً، يخطّط لتقليص وجوده في أوروبا بسبب ارتفاع تكاليف الطاقة، وهو أعلن في تموز الماضي الشروع في بناء مصنع جديد ضخم في مدينة تشانجيانغ (جنوب الصين) سيكلّف 10 مليارات يورو. ومن جهتها، تنفّذ شركة متاجر التجزئة «ألدي» برنامجاً لفتح آلاف المتاجر الجديدة عبر البرّ الصيني، في حين تخطّط «سيمنز» لتوسّع كبير في مجال «الصناعات الرقمية» المزدهر في الصين، وهي تُصرّف حالياً 15% من إنتاجها العالمي لشركات صينية. وتبيع شركة «فولكسفاغن» للسيارات، بدورها، أكثر من 40% من إنتاجها للسوق هناك، كما حصصاً معتبَرة من إنتاج «مرسيدس» و«بي إم في».
ولسنوات، كانت ألمانيا في عهد ميركل واحداً من المستفيدين الرئيسيين من انفتاح الصين على العالم، فيما غذّى مزيج من الطاقة الروسية الرخيصة والصادرات الألمانية الكثيفة إلى السوق الصينية طفرة اقتصادية استمرّت لما يقارب العقدَين، ووضعت ألمانيا في موقع الصدارة أوروبياً، في وقت كانت فيه اقتصادات بقيّة القارّة تميل إلى الانكماش. وفي عام 2021، عندما تركت ميركل السلطة، كانت الصين أكبر شريك تجاري لألمانيا لعام سادس على التوالي، حيث شكّلت 9.5% من مجمل تجارتها التصديرية. ومع أن المستشارة السابقة انتقدت الصين علناً في مسائل حقوق الإنسان، إلّا أنها أبْقت العلاقات الاقتصادية محيّدة دائماً عن بازار التصريحات السياسية، وزارت بكين بمعدّل مرّة واحدة سنوياً مصحوبة بوفود تجارية ضخمة. واليوم، يحذو شولتز حذْو سلفه ميركل؛ إذ اصطحب معه في زيارته الأولى مديري معظم الشركات الألمانية الكبرى، وأكد عزمه إدامة التعاون الاقتصادي مع الصين، ولم يَفُته إعلان إجراء نقاشات «صريحة» مع شي بشأن مجموعة واسعة من القضايا، بما فيها الحرب الأوكرانية، وحقوق الإنسان، واستخدام الأسلحة النووية. وفي المقابل، وافقت بكين على تصريح مشترك يندّد بالتهديد باستخدام الأسلحة النووية – من دون أن يَذكر روسيا بالاسم -، فيما دعا شي إلى تكثيف التعاون بين البلدَين وسط «أوقات التغيير والاضطرابات هذه».
ويقدّر مراقبون أن تجاوُب شولتز مع الصناعيين الألمان وسيْره على نهج ميركل بشأن العلاقة مع الصين، قد يعني نهاية قريبة للائتلاف الحاكم. واشتكى سياسيون في حزب «الخضر» من أن المستشار يبدو بصدد الذهاب وحده نحو علاقة دافئة ببكين، من دون أن يعبأ بالحكومة الائتلافية أو بالشركاء الأوروبيين أو حتى بالتزامات ألمانيا الأطلسية. لكنّ الجميع يعلمون أن شولتز قد ينتهي رابحاً من جولة انتخابات جديدة، ويعود أقوى ممّا مضى بدعم النُّخبة البرجوازية والعمّال الألمان، وهي الجهات الأكثر تضرّراً من سياسات الائتلاف الحالي المُحابية لواشنطن على حساب المصالح الألمانية. أوروبياً، قد تسبّب تَوجّهات شولتز مصاعب له داخل بروكسل، ولا سيّما من دول أوروبا الشرقية وبحر البلطيق التي تقف على يمين واشنطن ذاتها في ما يتعلّق بروسيا والصين، لكنّ الدول المؤثرة مِن مِثل فرنسا وإيطاليا قد تجد أنها تحتاج بدورها إلى رؤية الأمور من منظار مختلف عن المنظار الأميركي، وبناء سياسة متوازنة مع الصين بعد خسارتها روسيا. أميركياً، يرى خبراء أن واشنطن قد تتفهّم دوافع شولتز الداخلية، خصوصاً أنها معنيّة أيضاً بإبقاء نافذة لمحاولة إبعاد الصين عن الارتباط المعمّق بموسكو، فيما قد يكون من شأن الشراكات مع الأوروبيين أن تخدم كذلك في الحدّ من الرغبة الصينية في استعادة تايوان بالقوّة، وهي معركة لا ترغب الولايات المتحدة في فتحها، أقلّه في ظلّ المواجهة الحالية مع روسيا. في المقابل، وعلى الجهة الأخرى من العالم، اعتبرت الصين زيارة شولتز تطوّراً مرحَّباً به، حيث تتطلّع قيادة البلاد إلى توطيد علاقاتها مع العالم الخارجي بعد سنوات من العزلة السياسية التي تحاول واشنطن جاهدة فرضها عليها. ويقدّر الصينيون تاريخاً من التعاون البنّاء بين البلدَين خلال حُكم ميركل، وهم مستعدّون لبذل الجهد لمساعدة شولتز على إبقاء هذا الجسر نحو قلب أوروبا مفتوحاً، ولا سيّما لناحية سعة الصدر تجاه التصريحات المخصَّصة للتسويق الإعلامي.
هي إذاً زيارة ثمينة في قيمتها الرمزيّة والعملية للجانبَين، ومكسب لـ«العقلاء» على حساب الصخب الإيديولوجي، وبوّابة أمل بتحوّلات إيجابية لاحقة، سواء على صعيد العلاقات الأوروبية مع الصين، أو لناحية تخفيض مستوى التوتّر العالمي جرّاء المواجهة في أوكرانيا. لكن أسعد الجميع بما جرى، لا شكّ هم الصناعيون الألمان، «أبطال اللحظة».
سيرياهوم نيوز3 – الأخبار
x

‎قد يُعجبك أيضاً

ترامب يختار «صقوره» الشرق الأوسطيين: نعم للتغول الاستيطاني

عبر إجراء «جردة» سريعة على الشخصيات التي ستؤدي دوراً بارزاً في إدارة الرئيس المنتخب، دونالد ترامب، تجاه الشرق الأوسط تحديداً، يصبح من الممكن «استشراف» سياسة ...