| موسى السادة
«الديموقراطية الليبرالية تولّد الفاشية في الداخل، والإمبريالية خارج الحدود»
[إيرل براودر، 1933]
بمجرد إعلان تقدّم لولا دا سيلفا في الانتخابات، انتشرت خريطةٌ ملوّنة تشير إلى تحوّل مختلف حكومات أميركا اللاتينية نحو اليسار مقارنة بالفترات السابقة. الخريطة، بحد ذاتها، ليست جديدة. دورة تبدّل الحكومات اللاتينية بين اليمين واليسار عمليّة متكررة تاريخية. هي، بطبيعة الحال، ليست عمليّة تبدّل خيارات شعبيّة، وإن كان للعامل الشعبي دور، بقدر ما هي شد وجذب بين مشاريع الولايات المتحدة، من انقلابات وتلاعب بالانتخابات، وبين خصومها من التيارات الشعبية، حتى أصبحت عملية اختراق الانتخابات في أميركا الجنوبية أمراً متداولاً، تعوّد الناس على سماعه وكأن الأمر جزءٌ من العملية الانتخابية ذاتها. هنالك مرشح، وهنالك مرشح آخر مدعوم أميركياً، تحشد له الولايات المتحدة كل قواها الناعمة والاستخباراتية. لولا، نفسه، وقع ضحية إحدى هذه المشاريع في ما سمّي عملية «غسيل السيارات» واعتقل على إثرها وحوكِم. قصة التدخّلات هذه باتت معروفة ولا داعي لتكرارها، والمهم فقط تذكرها متى ما رأيت ناشطاً عربياً من مريدي أميركا والممولين منها يُعيد اجترار سردية الديموقراطية وحقوق الإنسان وخيارات الشعوب، ولعل أدق وصف لهؤلاء أنهم «ذاهبون للحج والناس راجعة»، كما يقول المثل.
شخصياً، ولأسباب مختلفة عديدة، حاولت تجنّب إبداء أي احتفالية بالحدث، فهنالك مشكلة تلاحظها على الفور، وهي أن الجميع يحتفل، وعلى مستوى العالم، لا وجود لضريبة أو تكلفة أو غربة لهذا الاحتفال، كما كان الوضع لانتصارات اليسار في السابق. جزءٌ كبير مردّه رومانسية سرديّة الفقير ملمّع الأحذية يعود من السجن لينتصر على العنصري اليميني الشرير، وهي صورة واقعية عن بولسنارو، لا ينفيها هو، بل إنه راهن على انتصاره عليها بصورة هي مزيج من المحافظة المسيحية مع العامل الأهم وهي علاقته بالمؤسسة العسكرية البرازيلية.
لكن المسألة هنا، والتي قفز عنها كثر، هي أن قرابة نصف الناخبين البرازيليين من مختلف الطبقات، ورغم انتصار لولا، صوتوا لرئيس عنصري يوسم بـ«الفاشية». تحوّلت عمليّة انتصار اليسار اللاتيني إلى حلقة مفرغة منخفضة القيمة السياسية والاقتصادية. نعم، سنفرح كل عدة سنوات بسماع أن رئيساً لديه شيء من العاطفة لفلسطين انتصر انتخابياً في الجانب الآخر من الكوكب، ولكن، الحقيقة هي أن جميع المشاريع اليسارية الأميركية الجنوبية، والتي وصلت إلى السلطة، لم تنجح في تجسيد تطلعاتها وخطابها إلى تغيّر بنيوي من الناحية الاقتصادية والسياسية يعطي طبقاتها الشعبية مكاسب ثابتة، أو أقلاً طويلة الأمد، لا يتم تفكيكها كلما أوصل الأميركيون ناخبهم، أو تحارب وينقلب عليها خلال فترة تولي اليسار السلطة.
مسائل التنمية من عدمها، والسيادة على الموارد، هي عملية تاريخية أكبر من جغرافيا أي بلد، ومن ذهاب شعب ما للتصويت
يقول الرئيس الفنزويلي الراحل هوغو شافيز في مقابلة: «صدقني لم أكن أريد التصادم مع الأميركيين حتى إنني قمت بزيارة البيت الأبيض، ومصافحة كلينتون، إلا أنني اكتشفت أنه لا يمكنك القيام بثورة والتحكم بمواردك دون التصادم مع الإمبراطورية». وجدت الثورة البوليفارية نفسها، ولكي تنجح، مجبورة على القتال وهو كرهٌ لها. وبالمناسبة، هي المسألة ذاتها مع الثورة الكوبية، لم يكن كاسترو متبنّياً لخيارات شيوعية صارمة أوّل الانتصار، بل في إحدى أولى مقابلاته تحدّث عن عملية انتخابية على النمط الغربي، إلا أنه اكتشف أن الأميركيين لن يتركوه، إلى أن غزوه في خليج الخنازير، حيث اكتسب هو ومن معه الصرامة الثورية أكثر وأكثر عبر الممارسة لا التنظير.
هذا ما يعود بنا إلى خريطة تبدّل الحكومات الأميركية الجنوبية نحو اليمين واليسار، كوبا هي الوحيدة التي حافظت على ثباتها لأنها رغم الحصار عملت على تجسيد مصالح طبقتها العاملة بشكل بنيوي قدر المستطاع، والأهم أنها تحمي هذه المكتسبات عبر قوات مسلحة شعبية. الأمر الذي اكتشفه مادورو متأخراً، وهي أن المسألة ليست أن تنتخب وسيحترم العالم «قرار الشعب»، بل إن الغرب كله سيحاربك، وما أنقذ الثورة البوليفارية هو عملية تحويل الجيش إلى مؤسسة ثورية، لم يتمكّن الأميركيون من اختراقها والانقلاب (لدرجة أنهم ظهروا بمظهر مثير للشفقة، كأن يعتقل صيادون فقراء مسلحين عملاء لوكالة الاستخبارات المركزية، أو أن يرسل الأميركيون ضابطاً على مروحية ليلقي عدة قنابل). ولعل مشهد المسيرات المستوحاة من النماذج الإيرانية في العروض العسكرية الفنزويلية، وحماية القوات المسلحة لسفن كسر الحصار النفطي بمجرد دخولها المياه الإقليمية، هي أبرز دلائل ممارسة السيادة عبر القوة.
أمّا البرازيل، فالأمر مختلف، لخصوصية تاريخية لجيشها، فهي مؤسسة يمينية، لها مصالحها الخاصة، فحتى حين كان لولا في الحكم، قام الجنرالات البرازيليون بإرسال قوات للمساهمة في غزو هايتي. ولأننا عرب، لننظر إلى الصورة من زاوية مختلفة، ولنتساءل لماذا تقوم زوجة بولسناور بارتداء علم إسرائيل حين تصوّت في الانتخابات؟ ولماذا يرفع بلسنارو نفسه علم الصهاينة كل مرة؟ يمكننا قراءة المسألة كون إسرائيل تمثّل العلامة التجارية للفاشية حول العالم، والنموذج المحتذى به لقوة تسويقية في الإبادة والحرب ضد السكان الأصليين. ولأن الديموقراطية الليبرالية قائمة على قوننة وديمومة التشكيل الطبقي للمجتمع، تنبتُ الفاشية في الداخل والإمبريالية في الخارج. فاشيو البرازيل يرتبطون وجدانياً بآخر قلاع العملية الاستعمارية الإحلالية؛ كما ينهب الصهاينة زراعة حوض الأردن وأراضي النقب يريد هؤلاء نهب غابات الأوزون وأراضي السكان الأصليين. إلا أن لزميلي المكسيكي في السكن تحليل آخر، أكثر مادية وأشمل، إذ يقول إن المسألة تعود إلى الصلات والمصالح المادية بين الصناعات العسكرية الإسرائيلية والجيش البرازيلي بعقود بمئات الملايين من الدولارات. الطبقة العسكرية والبرجوازية في البرازيل كما مختلف الدول اللاتينية (حيث أصبح الفقراء يربطون بين قمع الجيوش وسلاح العوزي الإسرائيلي) تحمي مكتسباتها الطبقية عبر التسلّح، وإن كانوا ينزعجون من نصر اليسار ونموذج لولا، فهم يعرفون مدى تأثيره الحقيقي على حياتهم الباذخة، وأن كرنفال الانتصار العالمي، في واقع الأمر، لن يغيّر جوهر ميزان القوة الذي يميل إليهم بشكل قاهر، لأنهم يمتلكون حركة التاريخ عبر احتكارهم للشرط المادي وهو السلاح.