| زياد غصن
لم يؤدّ هدوء جبهات القتال وانحسار المعارك عن مساحة واسعة من البلاد، إلى تراجُع منسوب العنف المجتمعي، بل إن جميع المؤشّرات تشي بحدوث نموّ في حجم هذه الظاهرة وأشكالها. ومن بين ما يُعزى إليه ذلك، الأوضاع الاقتصادية والمعيشية التي دفعت شريحة اجتماعية إلى اتّباع سلوكيات عدائية، بُغية التكيّف مع الظروف السائدة
أنْ يزداد عدد الجرائم وحوادث العنف إلى مستويات غير معتادة، فهذه نتيجة متوقّعة لحربٍ تَفرّدت عن نظيراتها في عدد نازحيها ولاجئيها، وفي طبيعة الشرخ الاجتماعي الذي أحدثتْه، وفي جبهاتها العسكرية والاقتصادية التي لا تزال مفتوحة على احتمالات متعدّدة، على رغم مُضيّ 12 عاماً على بداية هذه الحرب. لكن أنْ تأخذ كثير من تلك الجرائم بُعداً عائلياً، كأنْ يقتل الأب أولاده ثمّ ينتحر، أو أنْ يقتل الحفيد جدّته، أو أن تتّفق الأمّ مع أولادها على قتْل ربّ الأسرة، أو أنْ يجري تعذيب الأطفال على يد والدَيهم، وغير ذلك، فهذا يعني أن الخطورة تجاوزت مسألة الكمّ، لتصل إلى النوع، علماً أن الجزء الأكبر من الحوادث غير المؤدِّية إلى أضرار جسدية كبيرة، يبْقى محصوراً في إطار عائلي، ولا يَخرج إلى العلن لاعتبارات متباينة.
خلافاً لِما كان يعتقده البعض، فإن مستويات العنف الاجتماعي لم تتراجع مع انحسار المعارك عن مساحات واسعة من البلاد، بل زاد منسوبها بشكل واضح بدلالة البيانات الرسمية، التي أشارت إلى أن الأشهر الثمانية الأولى من العام الماضي سَجّلت وقوع 366 جريمة قتْل، أي ما معدّله الوسطي نحو 45 جريمة شهرياً، ونحو 157 حالة انتحار بمعدّل شهري يزيد على 19 حالة، فيما وصل عدد جرائم القتْل عام 2020 إلى حوالى 332 جريمة قتْل. وعلى رغم الشكوك التي تحيط بالبيانات الدولية، إلّا أن ذكرها يبدو ضرورياً لتلمّس الصورة السائدة دولياً عن سوريا؛ إذ وفق مؤشّرات موقعٍ يرصد واقع الجريمة العالمي، فإن دمشق تأتي في المرتبة الـ39 من بين مدن العالم لجهة مؤشّر الجريمة البالغ 67.9%، في حين لم يتجاوز مؤشّر الأمان فيها 32%. واللافت أن العديد من تلك الجرائم كانت ذات صيغة عائلية، الأمر الذي سلّط الأضواء على الدور المفترض للأوضاع الاقتصادية في محافَظة العنف الاجتماعي على مستويات انتشاره أو ارتفاعها. ويرى الرئيس السابق لـ«الهيئة السورية لشؤون الأسرة والسكّان»، أكرم القش، أن العامل الاقتصادي «مسبّب أساسي لكلّ المظاهر السلوكية السلبية، التي يتعامل عبرها الأشخاص مع بعضهم البعض، والحرب في سوريا كان لها دور كبير في رفْع عتبة العنف من خلال تأثيرها على كلّ المتغيّرات، وتحديداً العامل الاقتصادي، كفقدان العمل، والممتلكات، والخيارات». ويضيف القش، في تصريحه إلى «الأخبار»، أنه «عندما يفقد الناس خياراتهم في تلبية احتياجاتهم الأساسية، يلجؤون إلى أساليب وسلوكيات أخرى، فتتراجع نسبة التكيّف والتفاهم مع الآخر، وهذا ما يفسح الباب واسعاً أمام العنف بأشكاله المختلفة، اللفظي، الجسدي، والمعنوي، ليكون البديل، وليَستخدم أدوات مختلفة لتحقيق غايات تَنشر الجريمة والانحراف».
لن يؤدّي تَحسّن الظروف الاقتصادية، تلقائياً ومباشرة، إلى انخفاض في منسوب العنف الاجتماعي
لكن ذلك العنف لا يَظهر إلى العلن دوماً كما هو حال الجرائم الجنائية، التي يمكن قياس تطوّرها من خلال تتبُّع الأرقام والبيانات الإحصائية الصادرة عن أكثر من جهة رسمية، إذ ثمّة حالات يَجري التعامل معها على أنها شأن عائلي أو اجتماعي، أو تبْقى مكتومة بفعل عدم الوعي بالحقوق، وتالياً لا تتوفّر عنها أيّ بيانات دقيقة، كالعنف الأسري مثلاً أو العنف ضدّ المرأة. وفي هذا السياق، تَكشف دراسة للباحث وضاح الركاد قدّمها لـ«المرصد العمّالي»، «انخفاض الحصّة النسبية للذكور في قوّة العمل، مع ارتفاع نسبة الإناث من مجموع هذه القوّة من 16% عام 2010 إلى 37% عام 2019»، عازيةً ما تَقدّم إلى «ارتفاع تكاليف المعيشة وانخفاض القدرة الشرائية للدخل، بالإضافة إلى التحاق أعداد كبيرة نسبياً من الشباب بجبهات القتال أو مهاجرتهم خارج البلد». وكان من شأن التحوّل المُشار إليه أنْ وضع المرأة في مواجهة أشكال مختلفة من العنف، سواءً في المنزل حيث تزداد مهامها وتتداخل، أو في العمل حيث تتعرّض للتحرّش والتعنيف. وبحسب ما جاء في الدراسة، فإن عدم تَوفّر الحماية في بيئة العمل يؤثّر على الفتيات أكثر بكثير من الذكور، وهو ما وافقه حوالى 36% من الشباب المستطلَع رأيهم. ويصف مدير «المرصد العمّالي»، جمعة حجازي، الوضع المتقدّم بـ«العنف الاقتصادي»، لافتاً إلى أن «النساء اضطررْن إلى تحمّل أعباء إضافية تتمثّل في العمل خارج المنزل، وفي مهن لا تتوافر فيها معايير العمل اللائق والسلامة المهنية، وتَعرّضت الكثير منهنّ للاستغلال». ويرى حجازي، في تصريح إلى «الأخبار»، أن «العنف القائم على النوع الاجتماعي يمثّل مشكلة حقيقية، نتيجة غياب الأرقام والمعطيات عن تلك الظاهرة التي تهدّد كيان الأسرة، ولا تزال في ازدياد وتنامٍ على رغم الجهود المبذولة للحدّ منها».
التغيير بحاجة إلى وقت
خلافاً لما قد يُعتقد، لن يؤدّي تَحسّن الظروف الاقتصادية، تلقائياً ومباشرة، إلى انخفاض في منسوب العنف الاجتماعي، ما يعني أن تأثيراته ستظلّ حاضرة لفترة زمنية غير قليلة، وقد يتحوّل معها العنف من سلوك إلى ثقافة. وبحسب القش، فإن «تعديل السلوك من صفته المنحرفة إلى الصفة السويّة يحتاج إلى وقت، وإلى جهود مؤسّساتية؛ فمثلاً، رفْع الرواتب والأجور وتأمين الاحتياجات الضرورية للناس لا يعني أنه في اليوم التالي سوف نتخلّص من مظاهر العنف التي انتشرت بشكل فظيع بين الأسر، وأدّت إلى التفكّك الأسري، وارتفاع حالات الطلاق، وحوادث الجريمة والخطف، وغير ذلك»، فكيف الحال والأوضاع الاقتصادية تتّجه نحو مزيد من التدهور، وفي ظلّ قصور مؤسّساتي واضح عن دراسة ظاهرة العنف المجتمعي، وتتبّع أشكالها، ومحاولة محاصرتها. ويُضاف إلى ما تَقدّم أن غياب القنوات التي تتيح للناس التعبير عن آرائها ووجهات نظرها أو حتى إفراغ غضبها، يجعل من اللجوء إلى هذا العنف متنفّساً طبيعياً، وأبرز نماذجه ذلك المُوجَّه ضدّ المرأة.