| د. بسام أبو عبد الله
اقتبست هذا العنوان من مقال قديم نشرته صحيفة «الثورة» السورية في ثمانينيات القرن الماضي في زاوية «معاً على الطريق»، للأديب والشاعر السوري شوقي بغدادي، وملخص المقال أن الخطاب السياسي لبعض المسؤولين السوريين كان يركز دائماً على دور الإمبريالية فيما نحن فيه، لكنه تساءل آنذاك عن علاقة الإمبريالية بعدم إنارة شارع، وما علاقة الإمبريالية بحفرة في الطريق، وما علاقة الإمبريالية بتقصير هنا أو هناك من جانب هذه الجهة الحكومية أو تلك، لكن الفكرة التي طرحها لا تزال قابلة للنقاش حتى يومنا هذا، بالرغم من مضي عقود من الزمن عليها.
ما أقصده هنا هو موضوع التهرب من المسؤوليات التي لا تزال تحكم خطاب البعض من المسؤولين عن الشأن العام، وعدم الحديث بواقعية مع الناس، وإلقاء التهم عما وصلنا إليه على الإمبريالية، والحرب مرة أخرى، أي البحث عن التبريرات دون تحمل المسؤوليات.
للتوضيح أكثر أقول: لا يوجد أي باحث موضوعي وواقعي يمكن أن ينكر أن الحرب الفاشية التي شُنت على بلادنا هي حرب دمرت الكثير، وأدت إلى تراجع اقتصادي واجتماعي كبيرين، وأننا تحت حصار خانق يريد قتلنا ونحن أحياء، وأن مقاومة الشعب السوري البطلة والنادرة أحبطت مخططاً خطيراً جداً، كان يريد تقسيم بلادنا إرباً- إرباً، وهذا الجانب من التحليل أصبح مفهوماً لعامة الناس والمواطنين.
لكن السؤال الذي يطرح أمامنا دائماً: كم نسبة التأثير في واقعنا نتيجة ظروف الحرب القاسية؟ وكم النسبة المتاحة لنا للعمل ضمن إمكاناتنا ومواردنا القليلة؟ فهذا أمر مهم للغاية، لأن البعض يريد أن يستمر بـخطاب «كل الحق على الإمبريالية» على الحد الأدنى الممكن لناسنا وشعبنا؟
سأضرب أمثلة عديدة في محاولة للإجابة عن هذا السؤال:
– ما علاقة الإمبريالية بما حدث في اللاذقية قبل أيام عندما امتلأت الشوارع بمياه الأمطار، وتحولت إلى مسابح عائمة من الصعب المرور فيها؟ ولماذا لم تُتخذ الإجراءات اللازمة مسبقاً قبل بدء موسم الأمطار؟
– ما علاقة الإمبريالية مثلاً بنسب التزوير الواسعة التي شهدتها انتخابات الإدارة المحلية في بعض المناطق والبلدات السورية، ما أجبر المحكمة الإدارية على إلغاء ثلاثين مركزاً انتخابياً في طرطوس، وواحد في اللاذقية، مع الإشارة إلى أن الارتكابات كانت جسيمة حسب قرار المحكمة، فهل هناك وقاحة أكثر من ذلك؟
– ما علاقة الإمبريالية بالفساد الذي استشرى في كل مفاصل عملنا؟ وتحول إلى سلوك مقبول ومطلوب لدى كثيرين، والأدهى أن أولئك الفاسدين ينظّرون علينا بالنضال ضد الإمبريالية، ويطالبون بالديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان، لكنهم يأخذون أموالهم ويسافرون بعيداً عنا لاستثمارها في بعض دول الخليج جهاراً نهاراً بعد أن يتركوا مناصبهم، وتستغرب أحياناً من أين جنوا هذه الثروات، وأسسوا شركات للاستثمار العقاري هنا أو هناك، أو الأسهل افتتاح مطاعم خمسة نجوم لرعاية الفقراء والمساكين، على من يضحك هؤلاء؟! والناس تعرفهم اسماً اسماً.
يستطيع أي إنسان أن يعدد عشرات بل مئات الحالات التي لا علاقة لها بالأعداء والخصوم، وإنما لها علاقة بأدائنا، ومسؤولياتنا، وقدراتنا على إدارة الموارد المحدودة لتعزيز صمود الناس في كل مكان، ووقف نزيف الكوادر والكفاءات التي نراها كل يوم تنزف أمامنا من دون أي قدرة على وقفها، وإعادة ضخ الأمل من جديد.
لا شك أن الصورة ليست سوداوية بالمطلق، ففي الوقت الذي نشير فيه إلى هذه المظاهر والظواهر، نرى في المقابل عمالاً، ومهندسين سوريين يعيدون تأهيل معمل للغاز بجهود وطنية، وإرادة قوية وصلبة لمواجهة الإمبريالية المتوحشة بالعمل، وليس بالكلام والخطابات الرنانة، وهذا الخط هو الذي يجب تعزيزه وتقويته، وإبرازه للكثير من اليائسين من إمكانية تغير الأوضاع إلى الأفضل، وهو اتجاه يحتاج للعمل بصمت وهدوء لترى الناس نتائج العمل المضني، والتعب والجهد منعكساً على واقعهم وحياتهم.
إن أمثال هؤلاء العمال والمهندسين وغيرهم من الكوادر السورية في كل مكان هم النموذج الذي يحترم دماء الذين استشهدوا أو جرحوا في مواجهة الحرب الوحشية على بلادنا، وأما أولئك الذين يَفْسَدون، ويُفسِدون في كل مكان، فليسوا إلا أداة لاستمرار الحرب علينا لأنهم يستنزفون مواردنا القليلة والمتاحة من أجل مصالحهم الشخصية، ولا حل مع هؤلاء إلا بالحساب العسير والقاسي.
صحيح أن الحرب لا تفرز عادة أنبياء ورسلاً، ومفرزات أي حرب كارثية دائماً، ليس لدينا فقط، بل لدى كل شعوب وأمم الأرض، لكن الحرب أيضاً قدمت لنا نماذج رائعة للتضحية والفداء، وقدمت لنا شهداء أحياء لديهم إرادة صلبة، وقصص بطولية هائلة عن تضحيات الناس، وصلابتهم في هذه البلاد، لكن ما نراه على السطح للأسف هي النماذج التافهة والانتهازية والفاسدة، وهؤلاء يشكلون ظاهرة يجب محاربتها، كما نحارب الإرهاب، لأنها النماذج التي تحبط النفوس، وتقتل الأمل لدى أولئك الذين ضحوا وقدموا، والذين قدموا التضحيات قدموها من أجل مستقبل أفضل للأولاد والأحفاد، وليس من أجل أن يسود الفاسدون والانتهازيون، وقدموها من أجل عزة وطنهم وكرامته، وليس من أجل أن يتبختر الفاسدون أمامهم بفجور ووقاحة، وقلة أدب.
أنا من الذين ينظرون بواقعية لكل ما في بلدنا والعالم، وما أكتبه ليس تنظيراً لإدانة أحد ما، بل هو كلام الناس في كل مكان، هو كلام يحكى في الغرف المغلقة، وفي العلن أحياناً، لكنها قضايا لا يمكن السكوت عنها، وإذا لم نواجه هؤلاء الانتهازيين والفاسدين فالنتيجة ستكون صعبة للغاية، وهنا لا أحد يبحث عن مجتمع مثالي، ولا وجود لمجتمعات مثالية، لكن الواقعية تتطلب منا جميعاً الإشارة للأشياء والظواهر بوضوح شديد بدلاً من أن نعيش ازدواجية في الشخصية لن تنتج لنا إلا مزيداً من النفاق والكذب والابتعاد عن معالجة مشاكلنا بأيدينا لا بأيدي أي أحد آخر.
الحلول لمشاكلنا، ومفرزات الحرب، ضمن ما هو متاح وممكن تحتاج للعمل المضني، والجهد الكبير ليس من أفراد فقط، وإنما من مؤسسات عديدة متكافلة متضامنة، ولا مخرج أمامنا سوى إيجاد الحلول ضمن المتاح، والممكن، وزجّ قوانا الاجتماعية لمواجهة التحديات الماثلة أمامنا الآن وفي المستقبل.
القوى المعادية لنا قالتها بوضوح شديد: سنترك سورية تتآكل ببطئ، هؤلاء يعتقدون أن ما لم يحصلوا عليه بالقوة والإرهاب والتدمير، سيحصلون عليه بالتجويع والحصار والضغط الاقتصادي، لكن السوريين قدموا مثالاً ستذكره الأجيال لعقود قادمة في القدرة على الصمود، والدفاع عن بلدهم، ولا بد لهم من أن يقدموا مثالاً آخر على إرادتهم الفولاذية في إدارة ما هو متاح لهم من إمكانات بطريقة تعبر عن حجم تضحياتهم، واحترامهم لها، وهنا العبرة الأساسية بـ«العمل»، ولقد قالها الرئيس بشار الأسد بوضوح شديد «الأمل بالعمل» وليس بخطاب يقول «كل الحق على الإمبريالية»!
نعرف ذلك، لكن ماذا أنتم فاعلون؟ لأنه إما أننا ريشة تتقاذفها الرياح، وإما قوة قادرة على أن تخرج من عنق الزجاجة بالإرادة والعمل، فهل هذا ممكن؟
أجزم بأنه ممكن جداً، ولن أفقد الأمل كما كثيرين، لأنني مؤمن أن القادم أجمل مهما بدت الصورة قاتمة الآن.
سيرياهوم نيوز3 – الوطن