| بلال سليطين
حتى تاريخ خروج الفصائل المسلّحة من المدن التي شهدت صراعات عسكرية بين عامَي 2011 و2018، مثل الغوطة الشرقية وداريا وأحياء شرق حلب، استمرّ تدفّق الدعم والتمويل الدوليَّين. لكن مصادر التمويل هذه تبخّرت، وفُرضت محلّها قيود شديدة على الأموال التي تمرّ نحو هذه المناطق، في ظلّ عجز حكومي وربط «المجتمع الدولي» الملفّ الإنساني بالمضيّ قُدُماً في الحلّ السياسي
يعيش سكان المناطق الخارجة أخيراً من دائرة الصراع في سوريا، مرحلةً من «التخلّي الدولي»، بعدما كانت احتياجاتهم الإنسانية تتصدّر نشرات الأخبار والبيانات الدولية وتصريحات وزراء الخارجية، وحتى اجتماعات مجلس الأمن. أصبح هؤلاء، الآن، خارج دائرة الاهتمام، ويجري ربط احتياجاتهم الإنسانية بتقدُّم الملفّ السياسي. ففي أحياء شرق حلب، يعيش الأهالي بين نار العجز الحكومي عن تلبية احتياجاتهم الرئيسة – حالهم حال معظم السوريين -، بحجّة الحصار والعقوبات، وبين الشروط التي تفرضها الدول الغربية على المشاريع التي يتمّ دعمها في مناطقهم، والقيود التي وُضعت على التمويل المخصَّص لهذه المناطق بعدما كان تمويلاً حرّاً. وتقول مصادر مطّلعة، في حديث إلى «الأخبار»، إنه كان يدخل أحياء شرق حلب ما يزيد على 25 مليون دولار شهرياً، خلال النصف الثاني من عام 2015، تُصرف من دون قيود، سواء لدفع رواتب المسلحين أو لشراء احتياجات ومستلزمات مرتبطة بالعمليات العسكرية، وصولاً إلى توفير المواد اللازمة للسكان. وكانت الأموال تصل إلى ثلاث جهات رئيسة، تنال الفصائل المسلّحة النسبة الأكبر منها، ثم مؤسسات المجتمع المدني، وأخيراً المجالس المحلية والمؤسسات التابعة لـ«الائتلاف» المعارض.
تغيّر السيطرة يغيّر الواقع
في كانون الثاني عام 2016، خرجت «جبهة النصرة» والفصائل المسلّحة المتحالفة معها من أحياء شرق حلب بعد اتفاق تسوية مع الحكومة السورية برعاية روسية ودور تركي. لكن الأحياء بقيت على خرابها ودمارها بعد سنوات من المواجهات المسلّحة التي دُمِّرت خلالها البنى التحتيّة والمباني. وبقي في الأحياء بعض الأهالي الذين فضّلوا عدم الخروج من منازلهم شبه المدمَّرة، ولاحقاً عاد إليها الآلاف ممَّن كانوا نازحين سابقاً ليستقرّوا في بيئة غير صالحة للسكن.
سَجّلت بلدية حلب، عام 2019، وجود حوالى 10 آلاف مبنى آيل للسقوط في المدينة
لكن هذه المرّة لم يكن السكان أولويّة إنسانية كما كانوا عليه قبل خروج الفصائل من الأحياء، وفق مديرة مشاريع في جمعية تعمل في حلب. وتقول إن «التمويل المخصّص للأحياء الشرقية من قِبَل المنظمات الدولية لا يلبّي احتياجات السكان. فالمشاريع التي يتمّ تنفيذها بمعظمها غير ذي جدوى أو منفصلة عن الواقع بشكل تام»، مشيرة إلى القيود المفروضة على المشاريع الحيوية المقترحة، وإلى رفض هذه المشاريع بحجّة أنها مرتبطة بإعادة الإعمار المرهونة بالحلّ السياسي. من جهتها، تعترف مسؤولة في صندوق الأمم المتحدة في دمشق، بوجود أزمة تمويل في المشاريع النوعية، وتقول، لـ«الأخبار»، إن «المانحين يرفضون أيّ مشاريع متعلّقة بالبنية التحتية، والتي تُعدّ من الضرورات الملحّة للتعافي المبكر. فعلى سبيل المثال، كيف يمكننا مواجهة الكوليرا إذا لم نوفّر مشاريع صرف صحي جديدة للأحياء الخارجة من الصراع وتنتشر فيها حالات كوليرا؟». وتجيب: «لا نستطيع التعامل مع الكوليرا الذي هو نتيجة، من دون علاج السبب المتمثّل في غياب البيئة الصحيّة السليمة التي يحتاجها الإنسان للعيش، مثل الصرف الصحي والمياه والكهرباء والتعليم وصولاً إلى تأهيل المباني وترميمها».
سَجّلت بلدية حلب، عام 2019، وجود حوالى 10 آلاف مبنى آيل للسقوط في المدينة، بينما عملت على إجلاء أربعة آلاف عائلة من منازلها حفاظاً على حياتهم وتجنّباً لسقوط المباني فوق رؤوسهم. إلّا أن خطة الإجلاء التي نفّذتها البلدية تقوم على نقلهم إلى مراكز إيواء للعيش فيها، بينما تستمرّ أزمة انهيار المباني إلى يومنا هذا، حيث يتكرّر سقوطها فوق رؤوس قاطنيها الذين لا يمتلكون خيارات بديلة، وقد تعبوا من مشوار النزوح واللجوء.
في مقابل هذا الخطر الكبير الذي يتربّص بالناس، فإن التدخّل في تأهيل المباني تمنعه المنظّمات المانحة إذا كان بهدف إعادة الإنشاء، وتسمح به إذا كان مقتصراً على تركيب شباك أو باب أو بناء حائط. وفي هذا الإطار، تقول المسؤولة من صندوق الأمم المتحدة، إن «المانحين يدعمون مشاريع ترحيل الأنقاض من هذه الأحياء، وعندما نقول لهم تأهيل المباني الآيلة للسقوط، يجيبون أن هذا الأمر مرهون بالعملية السياسية، ولن يكون هناك تأهيل من دون مضيّ العملية السياسية إلى الأمام»، مشيرة إلى «عجز منظمات الأمم المتحدة المختلفة في دمشق عن التدخّل في ملفّ انهيار المباني لأنها لا تمتلك الدعم اللازم للتدخل في هذه المشاريع».
من جهة أخرى، تخشى منظّمات المجتمع المدني المستقلّة، والتي لديها مانحون من القطاع الخاص وتبرعات مباشرة، التدخّل في هذا الملفّ. ويشير مسؤول في إحدى المنظّمات الكبرى العاملة في دمشق، لـ«الأخبار»، إلى أن «هناك مؤسسات سورية تعمل في الخارج تقوم بتتبّع المشاريع ومراقبة المنظّمات التي تعمل في مجال إعادة الإعمار، مثلاً، ومن ثم تقدّم تقريراً بها للمكاتب المعنية في الاتحاد الأوروبي والخارجية الأميركية، فيتم فرض عقوبات علينا. لذلك، فإننا نتجنّب هذا التدخّل للحفاظ على استمرارية عملنا».