| منير شفيق
سعدت بمقالة الأخ العزيز خالد شوكات، والموجّهة إليّ، تحت عنوان «حوار قصير حول الديمقراطية». بداية، أشكر له تكريمي بهذه المقالة، كما أشكر تقديره الذي حمّلني عبئاً، آمل أن أكون عند حسن ظنه. وقد وجدت أن من الأفضل مناقشة موضوعات طرحها قائمة بحد ذاتها. وبهذا لا يكون الرد، دفاعياً، أو توضيحياً، أو محصوراً بين متحاورين.
أولاً: بين التجريد والمحدّد والملموس
ثمّة عمليّة تجريد، أو تعميم، من قِبَل كثيرين، في تناول موضوعَي المقاومة والحاكم المستبد، كما في تناول أسباب ما حلّ بالعرب من خيبات ونكبات ونكسات، وربطها بطبيعة أنظمة الاستبداد، أو بنواقص ذاتية في مجتمعاتنا.
لهذا يتوجب أن يحدّد أيّ مقاومة يقصدون؟ ومَن حُكام الطغيان الذين يقصدونهم؟ لأنهم لا يتحدّثون عن العالم بالعموم، وإنّما عن بلادنا العربيّة. يعني أنهم يقصدون بالمقاومة، قوى التحرّر العربي التي قاومت الاستعمار، وواجهت الكيان الصهيوني. ويقصدون بالاستبداد أيضاً، حركة التحرّر العربي التي مثّلها جمال عبد الناصر، والقوميين العرب، وأحزاب البعث. واليوم يقصدون المقاومة في فلسطين ولبنان في مواجهة الكيان الصهيوني وأميركا.
والسؤال هل يمكن تناول حركة التحرّر العربي باعتبارها أنظمة استبدادية، ونقطة على السطر؟ وهل نستطيع أن نصف شعوبنا بأن إنسانها مهزوم غير قادر على مواجهة الأعداء، لأن «طبيعة أنظمة الاستبداد لا يمكن إلا أن تنتج إنساناً مهزوماً غير قادر على مواجهة الأعداء؟»، وهي مقولة لا تفسّر ما عرفته بورسعيد على سبيل المثال من مقاومة شعبية في العدوان الثلاثي عام 1956، ولا تفسّر نزول الملايين التي رفضت الاستسلام لنتائج حرب عدوان 1967، وعليه قس عشرات الأمثلة، بما فيها تناقض المقولة مع ما عرفته تونس ومصر من ثورتين شعبيتين 2010/2011. فمن أين جاءت هذه الملايين التي خرجت من تحت عباءة «الاستبداد»؟
وبكلمة، إن قراءة تاريخ حركة التحرّر العربي في القرن العشرين لا يمكن أن تُختصر بعبارة «الأنظمة الطغيانية الاستبدادية…». ولا يمكن أن يُفسّر ما واجهته من خيبات ونكسات، بعيداً من إشكالية الهيمنة الديمقراطية الصهيونية الإمبريالية الغربية العالمية، أو تجاهل تمكينها للكيان الصهيوني، بعد صناعته من التفوّق العسكري الكاسح، وشنّ الحروب، بعيداً من التطرق إلى تجزئة البلاد العربية، والتحكم بالتسليح. وبكلمة، بعيداً من موازين القوى.
هذه «الديمقراطية» من نمط التداول على السلطة، أصبحت اليوم فقط على «الأجندة». ولكن حتى اليوم، فإن لها حديثاً آخر من حيث واقعيتها، ومدى إمكانها، أو عدم توفر شروط إقامة أنظمة ديمقراطية من النمط الغربي.
ثمّة خلاف جوهري في فهم وقراءة الديمقراطية الغربية، فهي ليست «محصّلة لتطوّر الوعي الإنساني عبر العصور». إنها محصّلة التجربة الأوروبية – الأميركية في هيمنتها على العالم
وبالمناسبة أيضاً، وللتاريخ، إن قيام الكيان الصهيوني، وهزيمة الجيوش العربية في حرب 1948 في فلسطين، وجّها ضربة قاضية إلى المحاولات الديمقراطية، أو إلى الإرهاصات الديمقراطية في مصر وسوريا والعراق، بعد الاستقلال، وفتحا الباب على مصراعيه للانقلابات العسكرية، للرد على الهزيمة. ويجب أن يُلاحَظ أن أميركا (الإمبريالية الصاعدة) دعمت، بشكل أو بآخر، فتح ذلك الباب (الانقلابات). وكان مدخلها الرئيس للهيمنة، والحلول مكان النفوذين البريطاني والفرنسي، وهذا كله قبل ولادة ما يسمّونه أنظمة الاستبداد.
يجب أن يُذكر أن الحديث عن أنظمة حركة التحرر العربي ابتداءً من مصر الناصرية لا يجوز أن يتجاهل قضاءها على مرحلة الملكية الخديوية، تحرّر مصر من الاستعمار البريطاني، وما أنجزته من إصلاح زراعي، وما حقّقته من تنمية صناعية، والتوسّع بالتعليم الابتدائي والجامعي، أو محاولة بناء جيوش لمواجهة العدو الصهيوني، حتى لو لم تستطع إنجاز ذلك. ووُجهت إليها الضربات العسكرية (وُجهت، أيضاً لمنع تطوّرها وتقدّمها)، وكيف لا يُلحظ تحديها لمنع الاقتراب من الوحدة، ومخاطرتها بإقامة الوحدة المصرية-السورية.
إن نسيان كل ذلك من أكبر الظلم. وقد كان كله سباحة ضد التيار، لميزان قوى عالمي وإقليمي وعربي. ويكفي أن إجهاض إنجازاتها، ومسار تطوّرها، تمّ من خلال العدوان العسكري السافر عام 1967. وبكلمة، كيف تُختصر تجربة تاريخية كفاحية، أنجزت ما أنجزت بعبارة واحدة «الأنظمة الطغيانية الاستبدادية». هذا ما يجب أن يُقال من أجل الإنصاف، من دون أن يعني دفاعاً عما حدث من بعض مظاهر الاستبداد، ومصادرة الحريّات العامة، وتقصير، أو أخطاء هنا أو هناك.
ثمّة خلاف جوهري في فهم وقراءة الديمقراطية الغربية، فهي ليست «محصّلة لتطوّر الوعي الإنساني عبر العصور». إنها محصّلة التجربة الأوروبية-الأميركية في هيمنتها على العالم، ونهب ثرواته. وقد ولّى الزمن الذي اعتُبر فيه التاريخ الأوروبي ومآلاته هو مركز التطوّر العالمي وهو المستقبل، وهو النموذج الأرقى والوحيد بين النظم السياسية والاقتصادية. يجب أن نسمع الآن للأصوات التي تخرج من الصين وروسيا، والهند وإيران، وأميركا اللاتينية، وأفريقيا وبلدان إسلامية: نحن لنا تاريخ وحضارة، ولنا أنماط عيشنا في الماضي، كما سيكون لنا أنماط عيشنا في المستقبل. وقد يخرج من قلب المعارك والحروب والصراعات التي تعصف بالعالم اليوم. فقد طوى فوكوياما، بنفسه، مقولته الهزيلة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وكسب أميركا الحرب الباردة «نهاية التاريخ».
أمّا اليوم فإننا نشهد بداية تاريخ جديد ليس متجهاً نحو تكريس سيادة الغرب أو الديمقراطية الغربية، وإنما لتطوّر متعدّد لأنظمة الحكم، وفقاً لسمات كل أمّة من أمم العالم.ثالثاً: في قراءة تاريخ أوروبا
1-دخلت أوروبا في سجن: جداره شمالاً القطب الثلجي الذي لا يُخترق، وجداره الغربي المحيط الأطلسي (بحر الظلمات)، وشرقاً وجنوباً ما قام من دول عربية امتدت من طنجة إلى بيزنطيا، وبعد بيزنطيا، الدولة العثمانية. ففي هذا السجن الذي حبسها عن العالم خارجها، تشكّلت الأنظمة الملكية والإقطاعية. وحكمت الكنيسة الكاثوليكية- العصور الوسطى.
3-بدأت الثروات من الذهب والفضة والنحاس والأحجار الكريمة تنهال على أوروبا (بالهبل كما يقولون)، ما أدّى إلى التطوّر الرأسمالي وإلى تطوّر العلوم الطبيعية. واقتضت ضرورات السيطرة الاستعمارية على المناطق المكتشفة إلى تطوير الجيوش، ولا سيما لمواجهة المنافسة الأوروبية-الأوروبية، والسيطرة على المستعمرات، ما اقتضى، بدوره، تشكيل الجيوش الحديثة الجرّارة. وكان شرط ذلك وحدة البلاد، وإقامة الدولة-الأمّة ذات المواطنة الحرّة.
بكلمة، حاجات الهيمنة الاستعمارية، وحاجات المنافسة العسكرية ما بين دول أوروبا، كانت وراء ما حدث من ثورات وصراعات للخلاص من الإقطاع، وتقييد الملكية، والإصلاح الديني (الذي استهدف الخلاص من سيطرة روما لبناء الكنيسة القومية بداية الأنكليكانية البروتستانتية)، وتأكيد «حقوق الإنسان».
4-بعد ثلاثة قرون من هذه العملية المعقّدة والمركّبة، تشكّل ما عُرف بالنهضة والتنوير والحداثة والديمقراطية. وكل هذه كانت نتاجاً لما حقّقته القوّة العسكرية والهيمنة الخارجية. وجاء ليغطيها بالوعي والثقافة والعلوم. فالمواطنة وحقوق الإنسان والخلاص من القنانة، وتشكيل الدولة الأمّة، سبقت بقرون ما حدث من تنظير حولها. فالإصلاح الديني كان هدفه إنهاء سيطرة الكنيسة على أوروبا، لتستقل الدولة القومية، وتشق طريقها الهيمني التوسّعي المستقل.
الديمقراطية في الغرب قامت على شروط كانت أساس تشكّلها وتطوّرها وثباتها، وهي:
أولاً-لا بد من توافر إجماع داخلي ما بين القوى الرئيسية في الدولة والمجتمع بالتوافق على النظام الداخلي كما على الاستراتيجية الخارجية. وهذا التوافق يشمل الدولة العميقة (الجيش والأجهزة الأمنية أساساً) لكي لا يحصل إخلال في أحدهما أو كليهما. وهذا يفسر استئثار حزبين من طينة واحدة على تداول السلطة، مثلاً في بريطانيا وأميركا.
ثانياً-نشأت وترسّخت الديمقراطية في ظل دول امتلكت ثراءً هائلاً من النهب الخارجي، ما أنتج درجة عالية من الاستقرار والرضى الاجتماعي، أو التشارك في الثروة ونزع صواعق الثورة الداخلية.
ثالثاً-يجب أن تتمتع الدولة الديمقراطية بحماية أمنها القومي، ومنع التدخل في شؤونها الداخلية، أي السيادة والاستقلال.