| حسام مطر
بعد عامين على بداية ولاية الرئيس جو بايدن أصدرت الإدارة الأميركية (تشرين الأول 2022) استراتيجية الأمن القومي الخاصة بها في 48 صفحة مقسّمة على أربعة أقسام. القسم الأول يقدّم تصوّر الإدارة الأميركية للتحدّيات والتهديدات التي على أميركا مواجهتها، والقسم الثاني يحدّد كيفية الاستثمار في بناء عناصر القوّة الأميركية، والقسم الثالث يعرض الأولويات الأميركية حول العالم، وأخيراً يقدّم القسم الرابع رؤية الإدارة الأميركية بحسب الأقاليم/القارّات. مع الإشارة إلى أن إدارة بايدن أصدرت في آذار 2021 «التوجيه الاستراتيجي المؤقّت للأمن القومي لإدارة بايدن» بانتظار إنجاز الوثيقة النهائية التي صدرت أخيراً.
1. انتهاء حقبة ما بعد الحرب الباردة والمنافسة جارية بشأن البديل
2. أصبح العالم أكثر انقساماً واضطراباً وتنافساً
3. العالم عند نقطة انعطاف لناحية المواجهة مع الصين وروسيا والتحدّيات المشتركة
4. تزايد مخاطر الصراع بين القوى الكبرى
5. اشتداد المنافسة بين النماذج الديموقراطية والاستبدادية
6. الارتفاع العالمي في معدّلات التضخّم
7. اشتداد التنافس على التكنولوجيا المتقدمة لتوظيفها أمنياً واقتصادياً
8. تراجع التعاون الدولي في التحدّيات الوجودية للبشرية.
وإذا أضفنا إلى ذلك التكرار المستمر في مختلف وثائق إدارة بايدن لمصطلح «العقد الحاسم» يصبح التصوّر الأميركي حول حراجة الحقبة الحالية واضحاً، والاستجابة لهذا الأمر متاحة ضمن نافذة زمنية محدودة.
أولاً: صراع مكبّل
تنطلق الاستراتيجية من التأكيد الروتيني «الممل» في أن مصلحة أميركا هي في «عالم حرّ ومفتوح وآمن ومزدهر». وتوضح الاستراتيجية أنها متجذّرة في المصالح الوطنية الآتية: حماية أمن الشعب الأميركي، وتوسعة الازدهار الاقتصادي والفرص الاقتصادية، وإدراك القيم الأميركية والدفاع عنها في قلب طريقة الحياة الأميركية. بناء عليه حدّدت الاستراتيجية تحديين أساسيين:
– الثاني: يتمثّل في «التحدّيات العابرة للحدود الوطنية» التي لا تعترف بالحدود. يحلّ تغيّر المناخ في المرتبة الأولى ويوصف بكونه «المشكلة الأكبر وربما الوجودية لكل الأمم»، ثم الأوبئة، وتحدّيات الاقتصاد العالمي وأزمة الطاقة العالمية. ولهذه التحدّيات آثار على الأمن الغذائي والاستقرار الأمني وانتشار الإرهاب وشيوع الصراعات. وتعلن الاستراتيجية أن أميركا جاهزة على الرغم من التنافسات الجيوسياسية للتعاون مع القوى الأخرى في مواجهة هذه التحدّيات ولكنها تلقي باللوم على الصين بذريعة أنها تعرض التعاون بشروط أو لا تتعاون كما في حالة تغير المناخ ووباء «كورونا».
وإلى جانب هذين التحديين، أشارت الاستراتيجية إلى ضرورة تشكيل قواعد اللعبة في مجالات التكنولوجيا والأمن السيبراني والتجارة والاقتصاد والرهائن.
– يتواصل تراجع الاهتمام بمسألة «الإرهاب» كما بدأ في استراتيجية إدارة ترامب. فقد ظهر الإرهاب في الاستراتيجية الحالية بكونه واحداً من التحدّيات المشتركة بدل أن يكون تهديداً رئيسياً ضمن الصراعات الجيوسياسية.
– تتحدّث الاستراتيجية عن التعاون في التحدّيات المشتركة ولكن طبيعة تلك التحدّيات تستوجب مشاركة أساسية من الصين نظراً لحجم مواردها وتأثيرها في النظام الدولي. فكيف يمكن لواشنطن جذب الصين للتعاون من داخل النظام الدولي الذي تتسيّده بالتوازي مع الانتقال في المنافسة مع الصين إلى درجة متقدّمة جداً بحيث تراها القوّة الوحيدة الراغبة والقادرة على تغيير ذلك النظام.
– ترى الاستراتيجية في الصين المنافس الوحيد على القيادة العالمية إلا أنها لا تُظهر أية رغبة بتخفيف التوتّر مع روسيا أو إيران بل تراهن على تعبئة الأوروبيين من خلال الحرب في أوكرانيا ضد روسيا. إن السياسة الأميركية التي اعتادت محاولة تقسيم أعدائها الأساسيين تبدو أنها دفعت بأعدائها نحو التكتّل وتشبيك المصالح بشكل أعمق. لكن ذلك لا يحجب أن الاستراتيجية لمست فارقاً في المخاطر والمصالح بين الصين وروسيا فلم تتعامل معهما ككتلة أيديولوجية موحّدة بل تتقاطع في المصالح.
تُبدي استعدادها للتعاون مع الدول غير الديموقراطية ما دامت تعترف بالنظام القائم أي الهيمنة الأميركية. ولذلك يظهر أن الاستراتيجية كرّست ثنائية مع النظام الدولي/ ضد النظام الدولي
– تصرّ الاستراتيجية على أن الولايات المتحدة لا تريد الوصول إلى حرب باردة مع الصين ولذلك تؤكّد أن مجالات التعاون محتملة، ولكن بنود الاستراتيجية في ما يخص بناء تحالفات بوجه الصين، ومسألة تايوان، وعسكرة منطقة المحيط الهادئ، ومحاولة عزل الصين عن سلاسل توريد التكنولوجيا المتقدمة، وحرب المعلومات على الصين ونموذجها، ومحاولة الفصل بين الحزب الشيوعي والشعب الصيني والضغط على الدول لتقييد التعاون مع الصين، كلها تشمل سياسات تصبّ في قلب الحرب الباردة.
– رغم الظهور المكثف لمفردة الديموقراطية في النصّ بدت الاستراتيجية مربكة تجاه الموقف منها. فهي تدين الصين لناحية نظامها السياسي السلطوي وتراه من مصادر العدائية الصينية لكنها في الوقت ذاته تُبدي استعدادها للتعاون مع الدول غير الديموقراطية ما دامت تعترف بالنظام القائم أي الهيمنة الأميركية. ولذلك يظهر أن الاستراتيجية كرّست ثنائية مع النظام الدولي/ ضد النظام الدولي مركزاً لصراع القوى الكبرى.
ثانياً: مستلزمات الحقبة الجديدة
هذه المستلزمات هي الاستثمار في القوّة الوطنية لحفظ تفوق تنافسي (الطبقة الوسطى، التحديث الصناعي والابتكار، التكنولوجيا، الشعب الأميركي، الديموقراطية)، واستخدام الديبلوماسية لبناء أقوى تحالفات ممكنة (التعاون مع الحلفاء الذين عليهم الاستثمار أيضاً في مصادر قوّتهم الداخلية، تحقيق التكامل بين حلفاء أميركا في أوروبا وفي منطقة الهندي-الهادئ، بناء تحالف واسع حتى مع دول لديها تحفّظات على القوّة الأميركية وكذلك دول غير ديموقراطية ما دامت مؤمنة بالنظام الدولي القائم، التعاون مع الشركات والحلفاء ومنحهم دور القيادة في مجالات التنمية المستدامة وبناء السلام والمناخ والفقر والغذاء والطاقة، وكذلك الاستثمار في النساء والفتيات ولا سيّما الأكثر تهميشاً بما في ذلك مجتمع «المثليين»)، وثالثاً: تطوير وتحدّيث الجيش الأميركي من خلال التصنيع العسكري والتصميم الإبداعي للمشكلات ودمج التكنولوجيا المتقدّمة والردع النووي وتأكيد السيطرة المدنية على الجيش.
– تواصل إدارة بايدن تعزيز الربط بين السياسة الداخلية والسياسة الخارجية فيتمّ تقديم كل سياسة خارجية من منظار عوائدها على العمّال الأميركيين والشركات الأميركية والأمن الأميركي، «فالازدهار حول العالم سيزيد الطلب على السلع والخدمات الأميركية». وتربط الوثيقة بين قوّة أميركا الدولية مع ارتفاع قدراتها التنافسية الاقتصادية والتكنولوجية. وكذلك نجاح الديموقراطية الأميركية في الداخل يعزّز من مرونة السياسة الخارجية. والهدف هو إعادة تزخيم وتعميق الحاضنة الشعبية الأميركية لخيار العولمة والسياسة الخارجية النشطة لاحتواء صعود التيّارات اليمينية ذات النزعة القومية المعادية للعولمة والمنادية بالحمائية.
– تؤكّد الاستراتيجية على مسألة تقوية وتحديث القدرات العسكرية والردع النووي، لكنها تفصح عن أن استخدام القوّة سيكون مشروطاً بحكم الضرورة وبكونه الخيار الأخير الممكن وبموافقة الشعب الأميركي. ولذلك تتبنّى الاستراتيجية استخداماً واسعاً للأدوات بحيث تصبح الحاجة للخيارات العسكرية في حدّها الأدنى وفق مفهوم الردع المتكامل ضمن عدّة مجالات وشركاء ومؤسّسات داخل الحكومة. وقد حاولت تحقيق التوازن بين التأكيد على القوّة العسكرية وبين الدعوة للتعاون الدولي بقيادة أميركية من داخل مؤسّسات النظام الدولي.
– إن بناء القوّة الداخلية الأميركية لمواجهة الصين يعني مزيداً من التدخّل الحكومي في الحياة الاقتصادية لا سيّما مع تراجع التأكيد على التجارة الحرّة وآليات الاقتصاد الدولي القائم على حرّية الأسواق مع تشديد القيود التكنولوجية على الصين. هذا الأمر من شأنه أيضاً أن يعمّق الخلافات بين القطاعات الصناعية والتجارية الأميركية التي لها مصالح متضاربة في العلاقة مع الصين.
– كيف تستطيع الولايات المتحدة الحفاظ على النظام الدولي الحالي وفي الوقت ذاته توظيفه لاحتواء الصين؟ من المحتمل أن تتجه الصين، بفعل العقوبات والقيود الغربية، مع شركائها في الاقتصاديات الصاعدة ودول الجنوب، إلى بناء نُظم مالية واقتصادية وتكنولوجية وتجارية مستقلّة نسبياً عن النظام الدولي وهو ما يعني احتمال ولادة نُظم دولية متعددة.
– هناك شكوك كبيرة في ما يخص قدرة الولايات المتحدة على تجديد ديموقراطيتها داخلياً وهي التي اعتبرتها الاستراتيجية عنصراً حيوياً ضمن مصادر القوّة الوطنية. ويظهر أن نص الاستراتيجية مدرك للتهديدات الداخلية أمام انتظام العملية السياسية الأميركية ولكنه لا يقدّم تصوّراً واضحاً للتعامل معها. ومن المحتمل أن تجد النخبة الأميركية الحاكمة في احتواء الصين وهزيمتها، كنموذج معاد لليبرالية، شرطاً ضرورياً لإضعاف اليمين الانعزالي المعادي لنمط العولمة الحالي الذي يتوسّع حضوره أميركياً وأوروبياً ولا سيّما في ظل النتائج الاقتصادية والسياسية لمجريات الحرب الأوكرانية حالياً.
ثالثًا: استنتاجات حول رؤية الاستراتيجية للأقاليم حول العالم
– الأقاليم بحسب الأولوية في الاستراتيجية هي: الهندي-الهادئ، أوروبا، أميركا اللاتينية/ النصف الغربي، ثم الشرق الأوسط وأفريقيا. لم يسبق أن تراجعت أهمية الشرق الأوسط إلى هذا الحدّ في وثائق الأمن القومي الأميركي منذ نهاية الحرب الباردة.
– بشكل لا يترك أي لبس، منطقة الهندي-الهادئ هي مركز الصراع العالمي بالنسبة للولايات المتحدة وفيها يُرسم مستقبل العالم من دون منازع. وهكذا تنظر واشنطن إلى مختلف الأقاليم الأخرى من منظار هذه المنطقة بشكل أساسي. لكن ذلك لا يخفي أن أميركا تواجه عدداً من المعضلات في هذه المنطقة:
– إن التركيز على الهند ودورها في تحقيق توازن إقليمي بوجه الصين يعزّز من مخاوف باكستان ما يدفع الأخيرة إلى موقف أقرب إلى كل من الصين وإيران. كما أن السياسات القومية المتطرّفة للحكومة الهندية ولا سيّما ضد المسلمين قد تُسبّب متاعب للولايات المتحدة حول العالم.
– هناك تناقض بين التأكيد على الديموقراطية ومنح الأولوية لمنطقة الهندي-الهادئ. إن أنظمة هذه المنطقة في العموم ليست معنيّة بمسألة الديموقراطية بل تسعى إلى استرضاء سكانها من خلال المكاسب الاقتصادية بدل المشاركة السياسية. ولهذا السبب جرى توجيه نقد للاستراتيجية أنها تتعامل مع منطقة الهندي-الهادئ بإطار مفاهيمي أطلسي.
تواصل إدارة بايدن تعزيز الربط بين السياسة الداخلية والسياسة الخارجية فيتمّ تقديم كل سياسة خارجية من منظار عوائدها على العمّال الأميركيين والشركات الأميركية والأمن
– تركّز الاستراتيجية على القارّة الأميركية ذاتها بشكل كبير من خلال التأكيد على الاستقرار والازدهار في الجوار القريب (توسعة الفرص الاقتصادية، تقوية الديموقراطية وبناء الأمن). وتثير أميركا اللاتينية مخاوف جليّة لا سيّما لناحية موضوعي الهجرة غير الشرعية باتجاه الولايات المتحدة (وهي مسألة خطرة لناحية تعزيزها للانقسام الداخلي الأميركي) وتهريب وتجارة المخدّرات. ولذلك ظهر رأي يجد أن هذين التحدّيين لا يمكن التعامل معهما وفق مقاربة أمنية ضيّقة بل من خلال إعادة تشكيل البيئة الاقتصادية والسياسية في أميركا الجنوبية ما يستلزم من الولايات المتحدة وضع ما يشبه خطة مارشال التي طبّقت لإعادة إعمار أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية. وهنا من المفيد الإشارة إلى مخاوف أميركية متصاعدة من عمق النفوذ الصيني المتنامي في دول أميركا اللاتينية أي ما تعتبره واشنطن حديقتها الخلفية.
وقد أثار القسم المتعلّق بالشرق الأوسط جملة ملاحظات، أبرزها:
– وجد بعض الخبراء أن الاستراتيجية كشفت عن التزام محدود تجاه سوريا، وانحصر التركيز على الشمال الشرقي من دون مقاربة لمجمل الأزمة السورية وهو ما قد يشجّع مسار التطبيع مع النظام وتحدّي الوجود الأميركي.
– كيف ستجمع إدارة بايدن بين الدعوة للتمتّع بالحرّيات والحقوق الأساسية بينما تتعاون مع الأنظمة الاستبدادية الحليفة في المنطقة تمارس العدوان وتقوّض الديموقراطية وتستغل الاقتصاد للإكراه أي ذات الممارسات التي تتهم أميركا كلاً من الصين وروسيا بارتكابها وتشرعن معهما المواجهة على أساسها.
– التشابه مع استراتيجية ترامب في ما يخصّ الشرق الأوسط من خلال: التصويب على إيران ولو بدرجة أقلّ في الاستراتيجية الحالية، والالتزام بمساعدة الحلفاء بوجه «التهديد الإيراني»، وتعزيز التعاون العسكري والاقتصادي لتمتين الاستقرار الإقليمي، والدفاع الصاروخي والبحري. في المقابل أكّدت الاستراتيجية الحالية على حلّ الدولتين بينما تجاهلتها استراتيجية إدارة ترامب.
خلاصة
يمكن إيجاز الاستراتيجية بأنها تطرح إطار 3×3 من حيث أنها تصرّح بأن الولايات المتحدة سوف:
1. تقوّي نفسها داخلياً (بالتحدّيد في التكنولوجيا والتصنيع والأبحاث وفعالية الحكومة)
2. وتبني التحالفات
3. وتعزّز قوّتها العسكرية،
بهدف:
1. المنافسة مع الخصوم
2. التعاون في التحدّيات العالمية المشتركة
3. تشكيل قواعد الحقبة الجديدة للعالم (ضبط معايير عالمية حول مسائل مثل الديموقراطية والتجارة والتكنولوجيا بما يعكس المصالح الأميركية).
الولايات المتحدة تسعى جاهدة لتعزيز متسارع للتكامل بين حلفائها بما في ذلك دفع التطبيع قدماً وفق أولويتي الأمن (الدفاع الصاروخي والأمن البحري) والاقتصاد وكذلك ضبط سلوك الأنظمة الحليفة عبر الحوار والضغط والحوافز والتأثير في سياساتها الداخلية. هناك حرص أميركي واضح على تهدئة توتّرات المنطقة وإدارة التنافسات الإقليمية لمنع انفجارها. محاولة ضبط إيران وحلفائها بتوازن إقليمي وبالردع العسكري والإشغال بالضغوط الاقتصادية لكن بحذر وواقعية. المنطقة الأكثر أهمية في الشرق الأوسط هي الخليج ربطاً بالطاقة والممرّات البحرية والنفوذ الإيراني. التشدد في تقييد الحضور الصيني لا سيّما على المستوى العسكري والتكنولوجي وهنا تتيح واشنطن للهند فرصاً لتنمية علاقاتها الإقليمية على حساب الصين. التركيز على موارد الطاقة في المتوسط بتشكيل قواعد اللعبة فيه بروافع أمنية تتعزز بتكامل متسارع بين القيادة الأميركية الوسطى وجيش العدو الإسرائيلي.
أخيراً، المشكلة الأساسية أمام الاستراتيجية تبدأ من واشنطن تحديداً، من البيت الداخلي، حيث تبرز انقسامات حادّة هويّاتية واقتصادية واجتماعية وسياسية. ما يعني أن الاستراتيجية الحالية قد تصلح لعامين آخرين ويصبح مصيرها مرهوناً بهويّة الرئيس الأميركي المقبل من ناحية وبنتائج الحرب في أوكرانيا من ناحية أخرى.