| يحيى دبوق
المعركة التي تدور رحاها في الساحات الفلسطينية على اختلافها، سيكون من شأنها تحديد وُجهة الصراع مع الاحتلال، وكذلك وُجهة تصارُع هذا الأخير مع نفسه. وإذا كانت الاعتداءات الإسرائيلية اليومية بما تُخلّفه من شهداء لا يفتأ عدّداهم يتصاعد يومياً، وما يقابلها من عمليات ضدّ جنود العدو ومستوطِنيه، هي التي تتصدّر العناوين والمتابعات، فإن المعركة الأكثر تأثيراً إنما هي الإسرائيلية البَيْنية المُوازية، والتي بدأت تستعر إلى حدّ يدفع مسؤولين إسرائيليين إلى التحذير من «هدْم الهيكل على مَن فيه». لا يقتصر الحديث، هنا، عن «حرب أهلية»، يات يتكرّر التنبيه إليها على لسان المسؤولين وهو ما لا يخلو من وجه حقيقة معتدّ به، وإنّما يتعدّاه إلى فهْم حدود القوة الإسرائيلية، وإمكانية تفعيلها إلى أقصى الحدود في مواجهة الفلسطينيين، لإنهاء وجودهم في أرضهم.
في الواقع، لا يختلف رئيس حزب «القوة اليهودية» الفاشي إيتمار بن غفير، ورئيس الحكومة المكلَّف بنيامين نتنياهو، ورئيس الحكومة المغادر يائير لابيد، وحتى رئيسة حزب «ميرتس» اليساري «غير المتطرّفة» زهافا غالئون، في النظرة إلى الأراضي الفلسطينية باعتبارها «حقاً حصْرياً لليهود»، سواءً بـ«عَطيّة» من السماء، أو نتيجة استيطانهم إيّاها في حقبة من حقبات التاريخ القديم. وأقنع الإسرائيليون، على اختلافهم، أنفسهم بهذه الرواية، إلى الحدّ الذي باتت معه مسلَّمة في وعيهم الجمعي، لكنّ الخلاف في ما بينهم، والذي يمتدّ منذ نشأة الصهيونية إلى اليوم، هو حول كيفية ترجمة هذا «الحق» وانتزاعه من الفلسطينيين الذين «اغتصبوه». هنا، يمكن الحديث عن نظرتَين: الأولى عنوانها «الأرض مقابل السلام»، وتقتضي التنازل عن أراضٍ احتلّتها إسرائيل عام 1967 مقابل تسويات مع الجانب العربي؛ والثانية تدعو إلى وجوب التمسّك بالأرض والسعي إلى «السلام مقابل السلام». وإذ تفاوتت الغلبة، على امتداد تاريخ دولة الاحتلال، ما بين هذَين الخيارَين، فقد ظلّت الحوكمة على طول الخطّ ممسوكة من قِبَل مَن يمكن وصفهم بـ«الحكماء»، الذين يوازنون بين القدرة على الفعل وتبعاته، ويتّخذون القرار وفقاً لنتيجة هذه الموازنة. وعلى ذلك الأساس، وافقت إسرائيل الرسمية على الانسحاب من شبه جزيرة سيناء، كي تتوصّل إلى تسوية سياسية مع مصر. والحال نفسه انسحب على الجانب الأردني، فيما تعذّرت، بقرار من الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، التسوية مقابل الانسحاب من مرتفعات الجولان المحتل.
تبدو فلسطين أمام تحدٍّ وتهديد وجوديَّين، من شأنهما أن يحدّدا مصير الأجيال المقبلة فيها
في كلّ حالة من تلك الحالات، كانت الشخصيات والجهات المتموضعة على هامش القوى السياسية في إسرائيل، تُعارض «التنازل» مقابل التسويات، وتُطالب بالمضيّ في الاستيلاء على الأراضي وإنْ كانت النتيجة إدامة الصراع العسكري مع العرب. وتصدّرت الجهاتِ المذكورة، دائماً، «الصهيونيةُ الدينية»، التي ترى في «استرداد» الأرض من «الأغيار»، أو الإبقاء على ما «وطأته أقدام يهودية»، أولوية الأولويات. إلّا أن تأثير هذا التيّار ظلّ هامشياً، فيما لم يستطع فرْض إرادته على القرار الإسرائيلي. أمّا بالنسبة إلى الفلسطينيين، فقد كانت الأمور أكثر تعقيداً معهم، حيث تعامَل كلّ طرف من الأطراف الإسرائيلية، وفقاً لرؤيته، مع «اتفاق أوسلو» الذي أخذ من الفلسطينيين ما أرادتْه إسرائيل، مقابل وعود لهم بأن يُعطَوا يوماً ما أرادوه. إلّا أنه سرعان ما تَبيّن للجميع أن الجانب الفلسطيني بات، في أعقاب الاتفاق، بلا أسنان، على رغم أنه جرّب خيارات الانتفاضات على اختلافها، التي حقّقت له انسحاب الاحتلال من قطاع غزة، من دون أن ينسحب ذلك على أكثر منه. ومن هنا، لم تجد إسرائيل مانعاً من الامتناع عن مُواصلة المسيرة السياسية، بل والتراجع عمّا التزمت به في أوسلو، خصوصاً أن الانسحاب من الضفة، خلافاً لما هو الحال في سيناء التي جلب التنازل عنها تحييد مصر عن الصراع، لن يعطي دولة الاحتلال شيئاً، فيما «الديباجة» القائلة بأن التسوية تُعبّد طريق التطبيع لم تَعُد ذات صلة، ولا سيما بعدما بادرت أنظمة عربية إلى تطبيع مجّاني مع تل أبيب.