محمد فرج
مع تصاعد الحضور الصيني في المسرح الدولي، تتوالد الأسئلة عن مستقبل هذه القوة، والأهم مستقبل العالم بقيادتها المحتملة.
“من سيركض لانتعال حذاء الإمبراطورية الأميركية الفارغ؟ هل تكون الصين؟ لا أعتقد ذلك. هذا الأمر بحاجة إلى مستوى من الغباء غير موجود عند الصينيين، ربما يوجد عند الأوروبيين” (يوهان غالتونج – بروفيسور نرويجي في علم الاجتماع والرياضيات).
ربما لم يقصد غالتونج أن الصين لن تتحول إلى إمبراطورية يوماً ما، ولكنها قد تقدم للعالم نموذجاً إمبراطورياً جديداً لم نعرفه في التاريخ، ولا يشبه النماذج الإمبراطورية التقليدية، من الحضارة الرومانية، إلى الثنائي الفرنسي البريطاني، وصولاً إلى الإمبراطورية الأميركية المسارعة في الهبوط.
مع تصاعد الحضور الصيني في المسرح الدولي، تتوالد الأسئلة عن مستقبل هذه القوة، والأهم مستقبل العالم بقيادتها المحتملة. التيار الأوَّل يرى أن استبدال الصيني بالأميركي لن يغير الكثير في النظام الدولي، وستبقى الملامح الرئيسية للعولمة التي فرضتها الحقبة الأميركية، والتيار الثاني يرى أن الصين لم تجرّب التحرك خارج حدودها من قبل بالمعنى الإمبراطوري العسكري، لذلك سوف تفشل في استبدال الولايات المتحدة. وثمة تيار ثالث يرى أن القيادة الصينية للعالم أمر حسن في كل الأحوال، أقلّه في استبدال القوة الأميركية المتوحشة.
مع أنَّ الصين في موروثها الثقافي تصّر دوماً على تعريف نفسها بهويتها الخاصة (الأنا)، وليس من خلال هوية الآخر (الـ”هو”، العدو، إلخ)، إلا أنَّ من غير الممكن لنا هنا قراءة النموذج الإمبراطوري الصيني الجديد من دون المقارنة مع التجربة الإمبراطورية الأميركية.
لذلك، سنناقش في هذه السلسلة التجربة الإمبراطورية الصينية وآفاقها، بالتوازي مع مقارنتها بالتجربة الأميركية، للوقوف على أهم ملامح التغيير الممكنة في النظام الدولي، وذلك في 3 عناوين أساسية؛ الأول هو صعود الإمبراطورية التجارية، وكيفية نشأتها، وآفاق عسكرتها، ومواضع اختلافها عن الإمبراطوريات التجارية السابقة، والثاني هو الاستثناء الصيني عن النموذج الغربي في مفهومي العمل والحرب، والثالث مقارنة بمؤشرات إمبراطورية حديثة بين الصين والولايات المتحدة.
إمبراطوريتان ببدايات مختلفة
إذا كانت الإمبراطوريّة الأميركيّة نشأت بمجموعة من المغامرين الغزاة الّذين تحدوا البحر وصولاً إلى الأراضي الجديدة، وإبادة السكان الأصلييين، ومن ثم الانطلاق مجدداً إلى مختلف بقاع الكوكب، وإقامة القواعد العسكرية، وصناعة التخلف في الأطراف للحفاظ على غلبة الميزان التجاري، فالمسار الصيني في بناء الإمبراطورية التجارية كان مختلفاً تماماً.
مرّت التّجربة الصينية بمحطات هبوط وصعود وجولات من الصراع بين الممالك وظهورٍ دوريٍ لأسرة إمبراطورية تعيد توحيدها، ولكنَّ الثابت النسبي في هذا المسار هو تراكم القوة التجارية والمهارة في العمل، وهو ما عبّر عنه أبو حيان التوحيدي في مقابسات الفلسفة العالية في القرن العاشر الميلادي: “نزلت الحكمة على رؤوس الروم، وألسن العرب، وقلوب الفرس، وأيدي الصينيين”.
في القرن السابع عشر، يقول أحد موظفي المانشو (الأسرة الإمبراطورية الأخيرة في الصين): “في أقصى الغرب، يوجد أجانب غربيون ذوو شعر أحمر، وهم أناس شديدو البأس، ومن بينهم الفرنسيون والإنكليز، وهم أمم غاية في العنف والشراسة، ولديهم سفن قوية لا تهاب الأعاصير، وأينما ذهبوا أرسلوا عيونهم في جميع الأنحاء بقصد الاستيلاء على أراضي الشعوب”.
ولدت الإمبراطورية التجارية الصينية في مزاج عدم الاكتراث، وأحياناً احتقار ما تنتجه أمم الغرب، فلم يكن يعنيها التماثيل البرونزية البريطانية أو الجوارب الصوفية الناعمة، ولكنَّ هذا المزاج لم ينعكس في خوض أيّ حرب على الأمم الأخرى، ولم تحاول الصين فتح طريق تجارة واحد بالقوة، ولم تحاول اقتحام أسواق أخرى بالقوة. كانت منتجاتها اللافتة ببساطة تغري الأمم الأخرى.
لذلك، لم تتردّد في فرض القيود التجارية على الواردات، وكانت الفضة تتدفق باتجاه الصين لارتفاع نسبة صادراتها (أدت الفضة في ذلك الوقت دور الذهب أو الدولار في العصر الحديث)، وخلخل هذا التدفق الميزان التجاري البريطاني لمصلحتها.
الأفيون لاستعادة الفضة
حاولت بريطانيا فتح أبواب السوق الصينية المغلقة وإجبارها على شراء الأفيون بالقوة. وفي عام 1839، حاصر لين تسي هو شحنات الأفيون المفروضة على الصين وأغرقها معتذراً من البحر: “أيّتها الروح التي تجعل منك فضائلك زعيمة الآلهة، وتضاهي أفعالك فتح أبواب الطبيعة وإغلاقها، أنت يا من تغسلين جميع الأوساخ وتطهرين من جميع النجاسات…”، وينتهي بابتهال للروح بأن “تروّض الطبيعة الوحشيّة للأجانب كي يعرفوا إلههم”.
كان عام 1839 حاسماً في مسيرة الإمبراطورية التجارية الصينية والمحاولات البريطانية لتأخيرها. أعلنت الحكومة البريطانية الحرب، وأرسلت ناقلات الجنود والسفن الحربية التي لم تتمكن الأسلحة النارية البسيطة في الصين وحملة الأقواس والسهام من التصدي لها، وانتهت الحرب بمعاهدة “نانكنج” التي كانت الحلقة الأولى في سلسلة طويلة من الابتزاز المذلّ للقوة التجارية الصاعدة، وفتحت المعاهدة 5 موانئ للتجارة الخارجية (كالتون وأموى وفوتشو ونينجبو وشنغهاي)، وتم التخلي عن هونغ كونغ لبريطانيا، بعدما كانت البرتغال قد احتلَت ماكاو، وتم تحديد سقف أعلى للجمارك على البضائع المستوردة بقيمة 5%.
بعد عامين فقط، حصلت الحكومتان الفرنسية والأميركية على امتيازات مماثلة من أسرة المانشو، وانتهت بذلك العزلة الطويلة لشعب الصناعة الداخلية والتصدير، وبدأت ألقاب الأجانب تتغير إلى “الإخوة الأجانب” بدلاً من “الشياطين الأجانب” أو “البرابرة ذوي الشعر الأحمر”.
منذ مقولة أبو حيان التوحيدي وقبلها، كانت الصين تراكم في الصناعات وتبتكر آليات الوصول إلى مناطق أخرى في العالم، في ظلٍّ عالم لم يكن متشابكاً كما هي الحال اليوم، ولكنَّ بريطانيا أخّرت هذا الصعود ولجمته بحروب الأفيون، وكانت حرب الأفيون الثانية عام 1856، عندما نزلت القوات البريطانية – الفرنسية المشتركة في تينتسين القريبة إلى بكين، واستسلم المانشو مجدداً، وأذعنوا لمطالب تشريع تجارة الأفيون، وحرية النشاط التبشيري، وفتح موانئ جديدة على نهر اليانجتسي، والسيطرة الكاملة على التعرفة الجمركية، وحق الأجانب بالإقامة في بكين، والسماح للقوى الأجنبية بنقل العمالة الصينية الماهرة للعمل على أرضيها ومستعمراتها.
لم يكن بالإمكان استنهاض القوة الصناعية للصين، وبالتالي التجارية، إلا عبر استبعاد أسرة المانشو التي أذعنت لمطالب الإنكليز. وقد خاضت الصين سلسلة من الثورات الفاشلة ضد المانشو، منها ما عرف بـ”ثورة الملاكمين” التي خاضتها مجموعات من الريفيين الصينيين الذين تلقوا تدريبات بدنية عالية، وخاضوا معارك ضد القوات الأجنبية والحملات التبشيرية، ولكن ساهمت أسرة المانشو في تصفيتهم، ولم تمدهم بالجنود لمواجهة القوات الأجنبية.
كانت البداية الجدّية للتخلص من المانشو وإذعانهم للقوانين التجارية البريطانية عام 1905، عندما تشكَّل التحالف الثوري بقيادة صن يات سن، وأعلن المبادئ الشعبية الثلاثة: القومية بهدف تحرير الصين من القوى الأجنبية، والديمقراطية لإطاحة أسرة المانشو، والأرض للفلاحين كي تتمكَّن كل أسرة من أسر الفلاحين من إعالة نفسها.
مع أنَّ الصين تخلَّصت من أسرة المانشو عام 1911، وزادت الفرصة لاستعادة الخطوط التجارية والتصدير وتأهيل القوى العاملة من جديد وتحريرها من الأفيون، فإنَّ العالم شهد حربين متتاليتين، فيما شهدت الصين في الداخل سنوات طويلة من الحرب الوطنية بين الشيوعيين والقوميين، انتهت بوصول ماو تسي تونغ عام 1949م إلى قيادة الصين.
ماو تسي تونغ.. تبدأ التجارة بالصناعة
كانت مرحلة ماو تسي تونغ، وعلى عكس ما تروج الكثير من الدراسات، أساساً في صعود القوة التجارية الصينية، لأنها أسَّست ببساطة لـ”تثوير الإنتاج” الصيني في الزراعة والصناعة. وعلى الرغم من أنَّ نصيب الصين من التجارة الدولية عام 1955 لم يتجاوز 1.4%، وأنها كانت تعتبر اقتصاداً مغلقاً، فإنَّ الخطط الخمسية لماو تسي تونغ استطاعت أن تنهي بقايا مرحلة الأفيون، وأعادت تنظيم العمل استناداً إلى وحدات ثلاث “الأسرة – التعاونية – الكوميون (مجموعة من التعاونيات)”. وبحلول عام 1959، كان 500 مليون فلاح صيني قد انضموا إلى 26000 كوميون.
وزّع الناتج على الأسر بحسب عدد أيام عملها بعد اقتطاع ضريبة الدولة (16-25% من الإنتاج بحسب المنطقة). ومع أنَّ مواسم الجفاف (1959 – 1962) دمرت الإنتاج الزراعي الصيني، إلا أنَّ التقنيات الجديدة (know how) في الإنتاج الزراعي كانت قد تأسَّست.
لم تقتصر الخطط الخمسية لماو تسي تونغ على الزراعة، إنما طالت القطاع الصناعي، وتم التخطيط لإصلاح السكك الحديدية، وإعادة بناء مدن بأكملها، وتحقيق استقرار العملة. وفي الخطة الخمسية الثانية (القفزة الكبيرة إلى الأمام)، حدثت الخطوة الكبيرة في مجال التصنيع، التي أسست لمرحلة التحولات الصناعية الكبرى.
“ليس مهماً لون القط… المهم أن يصطاد الفئران”
في المحاولة الصينية لتجنّب الخطأ السوفياتي في الاعتماد المفرط على الإدارة المركزية، حدثت نقطة التحول الكبرى عام 1978، التي أطلقت فيها الشراكات بين القطاعين العام والخاص وتشجيع الحوافز الفردية في الإنتاج. وعلى الرغم أنَّ الفكرة تُنسب إلى الرئيس الصيني السابق دينج هيساو بينج، فإنَّها تعود إلى واحد من رموز الحزب الشيوعي في الصين، شو إن لاي، الَّذي قال صراحة عام 1975، في آخر خطاب له، “إن الصين قررت تبني سياسة جديدة تتمثل بالتحديثات الأربعة، الزراعة والصناعة والبحث العلمي (التكنولوجيا) والدفاع”.
ساهم برنامج التحديثات الأربعة في زيادة دخل الفلاح وعمال الصناعة، إذ سمح لهم باستثمار الفائض من الإنتاج بعد تسليم كوتة الدولة، الأمر الذي ضاعف الإنتاج الصيني. وتضاعف الناتج القومي الإجمالي للصين بين عامي 1978 و1995م بنسبة 400%. وإذا كانت الولايات المتحدة قد ضاعفت دخل الفرد خلال 47 عاماً، وبريطانيا خلال 58 عاماً، واليابان خلال 37 عاماً، فالصين فعلت ذلك خلال 10 أعوام فقط.
كان الاقتصاد الصيني ينمو بتسارع، وكانت الولايات المتحدة تبحث عن أفيونها الخاص للجم القوة التجارية الصاعدة. وقد رأت في انضمام الصين إلى منظمة التجارة الدولية خياراً جيداً لاحتوائها، وكانت الولايات المتحدة حينها تفكر بمنطق الحرب الباردة: “لاستيعاب القوى الكبرى، دعها فقط تعمل بمنطق السوق”، ولكنّها لم تكن تدرك أنَّ الصين كانت تجهز نفسها جيداً منذ عام 1978 للحظة السوق العالمية.
أفيون أميركا لم يعمل
في مقالة مطوَّلة بعنوان “تراجيديا سياسات القوى العظمى”، يقول الكاتب الأميركي جون ميرشايمر إنّ الخيار الأميركي السليم مع الصين كان بإبطاء صعود قوتها التجارية، ولكن الولايات المتحدة، وعلى العكس من ذلك، ساهمت من حيث لا تدري في تسريع هذه القوة التجارية. والآن، أصبح الوقت متأخراً للحديث في هذا الأمر، وهذا الأسلوب لم يعد ينفع الآن مع تحوّل الصين إلى قوة اقتصادية عظمى.
المؤشرات التجارية العالمية تميل اليوم إلى مصلحة الصين بعد فشل السياسة الأميركية في “الاحتواء الاقتصادي”، عبر قبول انضمام الصين إلى منظمة التجارة الدولية.
عام 2000 (أي قبل عام من انضمام الصين إلى منظمة التجارة الدولية)، كانت الولايات المتحدة تنتج 25% من بضائع العالم وسلعها. حينها، كانت الصين تساهم في 9% فقط. واليوم، في الوقت الذي تزود الصين العالم بـ29% من احتياجاته، تتوقف الولايات المتحدة عند حاجز 18%. من جانب آخر، تعتبر الصين الشريك التجاري الأول لـ130 دولة في العالم، وميزانها التجاري بين صادراتها وواردتها في ازدياد مستمر لمصلحة صادراتها. وبحسب موقع “Macro Trends”، فإن القراءات على الشكل الآتي:
هذه القيمة من الصادرات تزداد بمعدلات عالية بشكل سنوي: 25%، 175%، 45%، على الترتيب بين السنوات السابقة، ما يعني أن الفجوة بين الصادرات والواردات تقلّ، في ظل انفجار الصادرات إلى الخارج، فيما تعاني الولايات المتحدة من ميزان تجاري سالب، أي أنَّها تستورد أكثر مما تصدر، ما يجعلها قوة تجارية هابطة مقارنة بالصين.
تحاول الولايات المتحدة تحسين ميزانها التجاري بمعدلات متواضعة 9% – 0.01% – 10%. ومن المهم الإشارة إلى أنَّ نصف العجز التجاري للولايات المتحدة سببه البضائع الصينية التي أغرقت السوق الأميركي، والتي لا تجد الولايات المتحدة بديلاً منها.
خلاصة: “كن حديداً قبل أن تكون حداداً”
بعدما وصلت الصين إلى موقعها التجاري الأول عالمياً، يمكن تلخيص الفوارق الأساسية مع الولايات المتحدة في منطق بناء الإمبراطورية التجارية بـ4 نقاط أساسية:
1. بناء الإمبراطورية التجارية الأميركية بدايةً كان قائماً على الغزو ونقل “العبيد” إلى العمل في المستوطنات في الأراضي الجديدة. أما في الحالة الصينية، فقد انطلق الأمر من تقديس قيمة العمل (سوف نتحدث عن هذا الجانب بالتفصيل في الحلقة الثانية من هذه السلسلة).
2. لفرض اتجاهات التجارة، بنت الولايات المتحدة أكثر من 800 قاعدة عسكرية، منها ما يخدم اللوجستيات، ومنها ما هو مهيأ لمهمات قتالية، في حين يمكن أن تكون الصين تكون التجاري لـ130 دولة من دون بناء هذه القواعد. بمعنى آخر، لم تترافق الإمبراطورية التجارية الصينية مع إمبراطورية عسكرية إلى الآن.
3. كي تتمكَّن الولايات المتحدة من الاستمرار في التحكم في اتجاهات الاستيراد والتصدير، عمدت إلى إيقاع الأطراف في فخ الديون، وبالتالي اعتماد سياسة “التكيف الهيكلي”، الذي يؤدي حتماً إلى صناعة التخلف. في الحالة الصينية، لا تفرض الصين أيّ شروط على إعادة الهيكلة في اقتصادات الدول لمنح القروض المتعلقة بالتجارة.
إلى اللحظة، لم تحمل التجارة الصينية سلاحاً يحميها، ولكن اليوم مع الطريق المتشابك من المطارات والموانئ لمبادرة “الحزام والطريق”، تقلق الصين من التعرض لأكبر بنية تحتية في تاريخ التجارة العالمية. ولعلّها قد تضطر إلى تأمينها وحمايتها بالقوة، ولكن إلى حينه يكون الحديد قد أصبح حدّاداً، بحسب شعار المؤتمر الأخير للحزب الشيوعي الصيني.
المراجع:
· جون ميرشايمر، الصين والولايات المتحدة، التنافس الحتمي ومأساة سياسة القوى العظمى.
· هيلدا هوخام، تاريخ الصين، منذ ما قبل التاريخ حتى القرن العشرين.
· وليد عبد الحي، المكانة المستقبلية للصين في النظام الدولي 1978 -2010.
سيرياهوم نيوز1-الميادين