ما قصة الجيش الألماني؟ وكيف تحوّل من قوّة عسكرية ضاربة في العالم إلى “جيش عارٍ”؟ وما هي أبرز المشاكل التي تعتريه؟
“الجيش الألماني يفتقر إلى كل شيء حتى ألبسة جنوده”، بهذه العبارة ينقل رئيس المجموعة الألمانية الفرنسية لشركات الدفاع KNDS فرانك هاون، في مقابلة نشرت أمس السبت مع صحيفة “سود دويتشه تسايتونج” الألمانية، الحال الذي وصل إليه الجيش الألماني. ويضيف أنّ الأخير “كان يمتلك ألفي دبابة ليوبارد 2، وحالياً فقط 300. وبواسطتها، يمكن حماية مدينة أوغسبورغ، ولكن ليس برلين بالتأكيد”.
من جيش يتكون قوامه من 18 مليون مقاتل، إلى جيش لا يتعدى الـ200 ألف مقاتل، ويعاني نقصاً في الذخيرة والعتاد، وانخفاضاً في مستوى التدريبات على الطيران، علاوةً على انخفاض مستوى التمويل. فماذا في الأسباب؟
من جيش 18 مليون إلى أقل من 200 ألف!
في عام 1871، تمّ تأسيس الجيش الألماني، إلا أنّه مع هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى، قامت الثورة الألمانية التي أعلنت نهاية عهد الإمبراطورية وبداية عهد الجمهورية البرلمانية الديمقراطية (عُرفت باسم جمهورية فايمار)، ومع بداية هذا العهد الجديد تمّ حلّ الجيش الألماني عام 1919، ليتمّ بعده تشكيل جيش في زمن السلم عُرف باسم Reichswehr أو ” الرايخسفير” ( 1919-1935)، وقد تمّ تقييد هذا الجيش الجديد من حيث الحجم والتسليح بموجب شروط معاهدة فرساي (معاهدة السلام التي أنهت حالة الحرب بين ألمانيا وقوات الحلفاء بعد الحرب العالمية الأولى)، التي كان من أبرز بنودها أن لا يتجاوز قوام الجيش الألماني 100 ألف جندي.
وفي ظل حكم هتلر، عمل قادة الرايخسفير بشكل حثيث لإحباط قيود معاهدة فرساي وبناء جيش قوي . وبالفعل بدأوا برنامجاً سرّياً للتوسع، فزادت القوّة النشطة إلى حوالى 300 ألف رجل عام 1933، وأجرى هتلر تغييرات هيكلية جوهرية في الجيش بحيث يضمن ولاءه الكامل للنازيين.
وبحلول عام 1935، كان هتلر قد انتهك معاهدة فرساي عدّة مرات، وبنى جيشاً قوياً، واعتمد على التجنيد الإجباري الشامل وغيّر الاسم الرسمي للجيش من رايخسفير إلى فيرماخت (والتي تعني: قوّة الدفاع).
وبرزت قوّة الفيرماخت بشكل لافت مع اشتعال الحرب العالمية الثانية بقوام 18 مليون رجل،وصولاً إلى بداية الانهيار بعد الهزيمة في معركة موسكو عام 1941. لتفقد ألمانيا مع نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945 ما يزيد على 11 مليون جندي بين قتيل أو مفقود.
وبعد الحرب العالمية الثانية، حلّ الحلفاء ما تبقى من جيش الفيرماخت، وفي عام 1955 تمّ تأسيس جيش خاص في ألمانيا الغربية، وفي الطرف المقابل، أسست ألمانيا الشرقية أيضاً جيشها الخاص عام 1956. ليتمّ عام 1990 توحيد ألمانيا ودمج الجيشان بجيش واحد قوامه 585 ألف جندي، استناداً إلى معاهدة القوات المسلّحة التقليدية في أوروبا ( CFE).
ومنذ ذلك الحين، شارك الجيش الألماني في عمليات حفظ السلام في جميع أنحاء العالم، كما بات قوّة مساعدة تابعة لحلف الناتو.
الجيش الألماني: طائرات لا تطير وجنود بلا أحذية
يعدّ الجيش الألماني واحداً من بين أكبر 30 قوّة عسكرية في العالم، وبقوامه البالغ 183,695 جندياً، يُعد ثاني أكبر قوّة عسكرية في الاتحاد الأوروبي بعد فرنسا من حيث عدد الأفراد، وسابع أفضل جيش من حيث التمويل في العالم. إلاّ أنّ هذا الجيش الذي كان يشكّل قوّة ضاربة في العالم، بات يعاني من خلل في جوانب مادية عديدة.
ووفق تقريرٍ نُشِرَ في كانون الأول/ديسمبر الماضي عام 2021، فإنَّ أقلَّ من 30% من السفن التابعة للبحرية الألمانية “تعمل بشكلٍ كاملٍ”، بينما “العديد من المقاتلات في وضعٍ لا يسمح لها بالطيران”. أمّا بالنسبة للمعدات البرّية، “فلا تُعَدُّ غير 40 من 350 مركبة قتالية من طراز بوما مؤهلةً للحرب”.
وحتّى إن امتلك المعدات، لا يملك الجيش الألماني ما يكفي من الجنود لتشغيلها. فبوجود 180 ألف جندي في صفوفه (مقارنة مع 500 ألف عام 1990)، يُعتبر عديد قواته أقلَّ بآلاف عن الأعداد اللازمة لمواجهة أيِّ غزو.
وفي هذا السياق، يقول الخبير الدفاعي، والنائب عن “الحزب الديموقراطي الحر”، ماركوس فابر، إنّ “الجيش الالماني لا يملك القدرة حتى على القيام بوظيفته الأساسية، المتمثّلة في الدفاع عن البلاد في حال تعرّضها لهجوم”.
وفي هذا الخصوص، تشتكي إيفا هوغل، مفوضة البوندستاغ لشؤون الدفاع من بطء عملية تحديث الجيش الألماني، وتضيف أنّ “القاعدة المادية للجيش أصبحت الآن أسوأ مما كانت عليه قبل بدء العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا، إذ إنّه تمّ إرسال الكثير من السلاح إلى كييف”.
وتقول هوغل إنّ “ألمانيا بحاجة إلى شراء ذخيرة بقيمة 20 مليار يورو من أجل تأمين قواتها المسلحة بالكامل، والجنود لا يتمّ تزويدهم دائما بالملابس اللازمة”.
وبشكل ساخر، انتقد موقع “بيزنس إنسايدر” في وقت سابق، الحال التي وصل إليها الجيش الألماني، قائلاً إنّ “الذخيرة التي يملكها الجيش الألماني حالياً قد تكفيه يومين من الحرب، حدّاً أقصى”، وهو ما يتعارض مع ما يفرضه “الناتو” على الدول الأعضاء من امتلاك ذخيرة تكفي ما يزيد على 30 يوماً”.
اقرأ أيضاً: لماذا يفقد الألمان حماستهم لمساعدة أوكرانيا؟
وفي عام 2019، كشفت صحيفة “دي فيلت” أنّ الجيش الألماني يواجه مشكلة تتمثل في نقص الضروريات الأساسية الأولية وخاصة الأحذية العسكرية. وذهب للقول إنّ “الطائرات لا تطير، والدبابات لا تسير، والمدافع لا تطلق النار”.
واشتكت الصحيفة من تأخر الإمدادات في الجيش الألماني، مشيرةً إلى أنّ الجنود في العادة يستلمون زوجين من الأحذية الثقيلة وزوجاً من الأحذية الخفيفة، لكنهم لم يمنحوا إلا زوجاً واحداً من الأحذية الثقيلة، حيث خصص 160 ألف حذاء لجيش يبلغ تعداده 183 ألفاً، في حين أمّنت احتياجات 31 ألف عسكري فقط من الأحذية الخفيفة.
سياسات التقشف
لسنوات، تعرّضت ألمانيا للسخرية بسبب اعتماد سياسات تقشفية في الإنفاق على دفاعها، وأكبر مثال على ذلك استهزاء الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما عام 2016 حول استغلال سلاح الجو الألماني للضمانات الأمنية الأميركية وعدم دفع نصيبهم العادل تجاه الدفاع الجماعي للناتو. ووجّه اللوم جزئيّاً إلى المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، خلال فترة رئاستها، وضاعف دونالد ترامب هذه السخرية، قائلاً لميركل: “أنجيلا يجب أن تدفع”.
واعتمدت ميركل سياسة التقشف فيما يخص الجيش الألماني، استجابةً لأزمة الديون الأوروبية في 2011، في محاولة لإبقاء التضخم منخفضاً وضمان فائض الناتج المحلي الإجمالي. وشمل ذلك تخفيض القوات والقواعد ووقف التجنيد الإجباري، كما تمّ الإبقاء على الإنفاق عند مستويات منخفضة للغاية.
وينتظر الجيش الألماني منذ سنوات الحصول على بنادق جديدة مكان تلك المتقادمة من طراز “جي36”. وطوّر عديد من المصنعين أسلحة جديدة، لكن العملية متوقفة. وأمّا قوّة المشاة الجبلية التي تعد من قوات النخبة، فتحتاج بشدّة إلى زلاجات جديدة، بينما كان يتعين منذ زمن طويل أيضاً استبدال مظلات الجيش التي عفا عليها الزمن.
وخفّض قطاع الصناعة قدراته الإنتاجية في إطار سياسة التقشف. وأكدت وزيرة الدفاع الألمانية، كريستينه لامبرشت، زيادة التكاليف المخصصة للذخيرة في العام المقبل إلى ما يقرب من 1.125 مليار يورو، موضحة أنّ “تسليم أوكرانيا ذخيرة من مخزون الجيش الألماني قد فاقم الموقف”.
اقرأ أيضاً: ألمانيا تواجه مشكلة: انخفاض كبير في الذخيرة بسبب توريد الأسلحة إلى كييف
تأسيس جيش قوي.. لماذا الآن؟
في الساعات الأولى من العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، أحدث قائد الجيش البرّي الألماني ألفونس مايس هزّة عبر البلاد بإعلانه أنّ “الخيارات التي يمكننا عرضها على السياسيين لدعم حلف الناتو محدودة للغاية”، وقال إنَّ “الجيش الألماني عارٍ تقريباً”.
وبعد 3 أيام من بدء العملية، تعهّد المستشار الألماني أولاف شولتس في خطابٍ، تخصيص ميزانيةٍ قدرها 100 مليار يورو للجيش، وزيادة الإنفاق السنوي على الدفاع ليشكّل أكثر من 2% من إجمالي الناتج الداخلي. في خطوة أثارت ردود فعل واسعة نظراً لتاريخ ألمانيا في الحروب، خاصة الحرب العالمية الثانية. واعتبرتها صحيفة “لوفيغارو” الفرنسية تطوراً من شأنه أن يقوض التوازن الفرنسي- الألماني في أوروبا. “ففرنسا،حتى الآن هي الوحيدة التي تمكّنت من تحمّل مسؤولية القيادة في الشؤون الدفاعية داخل الاتحاد الأوروبي، واستخدام هذه الرافعة على المستوى الدولي”.
ووفقاً للصحيفة الفرنسية، فإنّ ألمانيا بدأت بالفعل العمل على تعويض تأخرها في مجال تحديث جيشها، مشيرة إلى أنّ الحكومة “ستصرف المبلغ بشكل تدريجي ابتداء من 8 مليارات يورو العام المقبل، وستستخدم 40 مليار يورو لشراء طائرات أميركية من طراز (إف 35) قادرة على حمل الشحنات النووية المتمركزة في ألمانيا، كما سيتم تخصيص 20 مليار يورو لأنظمة القيادة، و20 ملياراً للبحرية، و16 ملياراً للجيش”.
وتوقّع الجنرال إبرهارد زورن، المفتش العام للقوات المسلحة الألمانية، أن “تواجه هذه القوات سنوات صعبة”، فبالنسبة له “الحرب في أوروبا أصبحت واقعاً من جديد”. وبالتالي، يتوجب على ألمانيا الاستعداد لمواجهة روسيا على الحدود الشرقية لحلف شمال الأطلسي، وعلى الجيش الألماني أن يوفر “قوات قادرة على الرد وعلى القتال” ولا ينتظر الدعم من الولايات المتحدة.
وفي هذا السياق، أعربت وزير الدفاع السابقة، آنيغريت كرامب-كارنباور، عن غضبها من فشل ألمانيا التاريخي في عدم تجهيز قواتها بأي شيء من شأنه أن يردع روسيا.
أمّا بول موريس، المتخصص في الشأن الألماني، فلديه رأي آخر، ويقول بأنّه ليصبح الجيش الألماني ذا مصداقية، يجب أن يحرر نفسه، ويضيف أنّ ميزانية الجيش الألماني العسكرية الجديدة لا جدوى منها إذا لم ترافقها استراتيجية، أو إذا كانت فقط لمجرد شراء عتاد. “فالجيش الألماني يجب ألا يكون فقط منفذاً لاستراتيجيات الآخرين”، وفقاً لموريس.
ويبقى السؤال الأهم: كيف لدولة كألمانيا التي تعدّ من مؤسسي الاتحاد الأوروبي وتضمّ قاعدة رامشتين، أكبر القواعد العسكرية الأميركية في أوروبا أن تعاني من مثل هذه الثغرات البدائية؟
سيرياهوم نيوز1-الميادين