طريق الخلاص في العلاقات السورية التركية
| د. بسام أبو عبد الله
لا يختلف المحللون الموضوعيون، والواقعيون من أن علاقات مستقرة تقوم على الاحترام المتبادل، والتعاون المستند إلى المصالح المشتركة بين دمشق وأنقرة، هي حاجة لكلا البلدين، وهي مخرج إجباري لعودة الأمن والاستقرار للشمال السوري الذي أنهكته قوى الاحتلال، وأدواتها من المرتزقة سواء أخذوا هوية يسارية للتضليل مثل «قسد»، أم هوية إسلاموية كما هو الحال مع مرتزقة أنقرة بتسمياتهم المختلفة.
وعلى الرغم من سيل التصريحات للمسؤولين الأتراك بدءاً من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ثم وزير خارجيته مولود تشاووش أوغلو، وصولاً للناطق باسم الرئاسة إبراهيم قالين إلى وزراء ومسؤولين وزعماء أحزاب، لكن جواب دمشق كان دائماً مختصراً: «نريد الأفعال وليس الأقوال»، وهذا يعني أن فتح القنوات الأمنية بين الأجهزة الاستخباراتية في البلدين للبحث في الأجندة المعقدة بين العاصمتين، لا يعني الانتقال مباشرة لمرحلة اللقاء السياسي قبل الوصول لخطة عمل واضحة وموثوقة جاهزة للتنفيذ، ويمكن تلمس نتائجها على الأرض، وليس من خلال وسائل الإعلام فقط، أو من خلال تصريحات عامة لا أثر لها في الواقع.
آخر هذه التصريحات ما أُطلِق عليه شروطاً تركية للتقارب مع دمشق، ومنها ما سموه الحوار مع المعارضة السورية، وهو مصطلح بحاجة للتوضيح! أي ماذا تقصد أنقرة بالمعارضة السورية: هل هم جماعة الإخوان المجرمين الذين سقطوا في كل العواصم العربية، وظهرت أجندتهم المرتبطة بالمشروع الأمريكي الصهيوني، كما بانت أدواتهم الإجرامية وكذبهم وانتحالهم اسم الإسلام لخداع الناس، واللعب على عواطفهم، تحت هذا العنوان الجذاب! أم المقصود تنظيم جبهة النصرة الإرهابي، وهو فرع تنظيم القاعدة في بلاد الشام، والذي غيّر اسمه إلى ما يسمى «هيئة تحرير الشام»، وممن ستتحرر الشام؟ بالطبع من أمثالنا من الكفرة والزنادقة وفقاً لأيديولوجية هؤلاء، ومن كل من لا يتفق مع طروحاتهم العنصرية، والمنافقة! وإذا توسعنا أكثر سنجد اسم المرتزق أبو عمشة مثلاً، وهو لص دولي معروف، أو تنظيمات تحمل أسماء السلاطنة العثمانيين، وترفع العلم التركي، وتخدم المصالح التركية، وقاتلت في ليبيا، وناغورني كاراباخ، والبعض يتحدث عن أوكرانيا، وبالتالي هل ينطبق على كل هؤلاء صفة «معارضة» أم هم أقرب بالتوصيف القانوني إلى «مرتزقة» ليس أكثر.
إذا كان البعض في أنقرة ما يزال يعتقد بأن وصفة أحمد داوود أوغلو التي حملها للرئيس بشار الأسد في نيسان 2011، تصلح الآن، فهو واهم ومشتبه، ولابد له من فحص قدراته العقلية، إذ كيف يمكن بعد كل هذه التضحيات الهائلة، وبعد انكشاف أوراق التآمر على سورية، ودور غرف العمليات المركزية التي قادت الحرب على دمشق من الأردن وتركيا، أن يعود البعض لطرح هذا الأمر كشرط مسبق للتقارب مع دمشق، ثم إذا كانت أنقرة حريصة على أمنها القومي، هل يمكن للأمن القومي لدولة أن يتحقق من خلال تهديد الأمن القومي لدولة جارة، ومن خلال تمويل الإرهاب، ورعاية تنظيماته؟ بالطبع غير ممكن، ولا أفق لتحقيق الاستقرار على الحدود المشتركة، لا بمنطقة آمنة، ولا بالميليشيات والمرتزقة، ذلك أن الطريق واضح ومعروف، وهو توقيع اتفاقيات أمنية مشتركة بين الدولتين، تأخذ بالاعتبار هواجس وحاجات البلدين، وليس هواجس أنقرة وحدها، فإذا كانت تركيا قلقة من المشروع الانفصالي لـ«قسد»، عليها أن تتذكر أن آلاف المرتزقة والإرهابيين عبروا من حدودها لتدمير سورية، وزرع الفوضى والقتل والدمار، وتشريد شعبها، وبالتالي فإن الهواجس مشتركة بما فيها المشروع الانفصالي لـ«قسد» الذي تدعمه الولايات المتحدة الأميركية التي كانت تركيا شريكتها في الحرب على سورية، وأميركا كما هو واضح لكل ذي عقل وبصيرة، تستهدف كل دول المنطقة بما فيها تركيا، وعلى الوطنيين الأتراك الضغط من أجل إيقاف عقل بعض القيادات التركية عن نمط التفكير الانتهازي، واللعب على الحبال، وتناقض المصالح، الذي يشابه إلى حد كبير مرحلة السلطان عبد الحميد الثاني (1876-1909) الذي يؤكد في مذكراته: «أن دول أوروبا الكبرى أرادت تقسيم العالم فيما بينها، ومن ضمن ذلك الدولة العثمانية، وأن الدول الأوروبية كانت تتذرع بإعطاء الحقوق للمسيحيين في الدولة العثمانية، ولكن فهمنا أن هذا مجرد كلام، المقصود منه تقسيم الدولة» ويتابع إن دول أوروبا اتبعت أساليب «فرق تسد» بين مختلف طوائف الدولة، ومن ذلك أسلوبان الأول تأييد المسيحيين ضد المسلمين، ومساعدتهم في شن الثورات، والحروب ضد المسلمين، والثاني: العمل على إيجاد عداوات وفتن بين المسلمين أنفسهم، وهذا ما يسهل أهداف الدول الأوروبية بعد إضعافها.
حاول عبد الحميد الثاني اللعب على التناقضات والمصالح بين روسيا وفرنسا وبريطانيا وإيطاليا وألمانيا، وهو الطريق نفسه الذي عمل عليه أردوغان متقمصاً شخصية عبد الحميد الثاني، أي اللعب على التناقضات والمصالح بين روسيا والولايات المتحدة وبين أوروبا وروسيا، وهكذا دواليك، إذ كان أردوغان يعتقد أن بإمكاناته إسقاط الدولة السورية، والإتيان بنظام سياسي إخونجي عميل له، كما الحال في ليبيا، وغيرها من المناطق، مستغلاً تكليفه أميركياً بتنفيذ مشروع الشرق الأوسط الكبير، بدءاً من بلاد الشام، وهذا المشروع كُسر على أبواب الشام من خلال صمود الشعب السوري وجيشه وقائده بدعم من الحليفين الروسي والإيراني وقوى المقاومة في المنطقة.
وبغض النظر عن مدى اتفاق البعض معنا فيما نطرحه فإن الأجواء تغيرت كثيراً، ولكن الأدوات بقيت نفسها.
– أي سياسة فرّق تسد التي عمل حزب أردوغان على نشرها بين المسلمين أولاً، سياسة خارجية مذهبية.
– اللعب على التناقضات وانتهاز الفرص، وهذه سياسة قصيرة النظر، ولا تدل على البراعة.
– أميركا التي تدعم تقسيم سورية سوف تنتقل لاحقاً لتقسيم تركيا.
– من ينظر بمحيط تركيا يرى أن واشنطن نقلت ثقلها الكبير نحو اليونان، وأصبحت القواعد العسكرية منتشرة في الجزر اليونانية التي يفترض أن تكون منزوعة السلاح بموجب اتفاقية لوزان عام 1923.
– مشروع «قسد» الانفصالي مدعوم أميركياً وبريطانياً وفرنسياً وغربياً، وهو بقدر ما يهدد وحدة الأراضي السورية، يهدد الأمن القومي التركي.
ما أريد قوله باختصار إن طريق الخلاص لن يكون إلا:
1- عبر التوقف عن التذاكي والمكابرة من الحكومة التركية، والاعتراف لدمشق بالخطأ الاستراتيجي الفادح الذي تسبب بكل هذا الدمار والخراب، والبدء بفتح صفحة جديدة صادقة لبناء مستقبل للبلدين والشعبين، وأما استمرار التصريحات دون أي مرتكز على الأرض، فهو كلام انتخابي تدرك دمشق أن هدفه الصوت الانتخابي، وهذا أمر لا يعنيها.
2- لقد طرح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عام 2019، وكرره قبل فترة وزير خارجيته سيرغي لافروف من أن العودة لاتفاقية أضنة لعام 1998 هو المخرج للبلدين، وهنا لابد من القول إن الحاجة لأضنة كانت تركية عام 1998 للخلاص من كابوس الـ«ب ك ك»، ونشأ عن ذلك لجان أمنية، وتعاون أمني ناجح لمصلحة البلدين، وأما الآن فإن الحاجة هي سوريّة بعد تمويل ورعاية الإرهابيين وميليشياتهم من أنقرة، أي هناك حاجة للبلدين لاتفاقية أمنية تراعي هواجسهما المشتركة، وليس هواجس طرف واحد، كما قد يفهم البعض.
3- إن ملف اللاجئين السوريين لا حل له إلا من خلال تعاون مباشر بين حكومتي البلدين، ولا إمكانية للحل عبر وهم ما يسمى منطقة آمنة التي لا تعدو عن كونها منطقة احتلال تركي مموهة.
4- ما أطرحه ليس كلامي فقط، بل إن زعيم حزب وطن التركي دوغو بيرنتشيك طرحه أول من أمس الثلاثاء في برنامج تلفزيوني حينما هاجم تصريحات الوزير تشاووش أوغلو، وطالبه بالتوقف عن وضع الشروط على دمشق، والتباحث المباشر بعد الاعتذار عما ارتكبته الحكومة التركية بحق سورية وشعبها ورئيسها، قائلاً لحكومة بلاده: توقفوا عن هذا التذاكي وهذه التصريحات.
إن طريق الخلاص لمن يريد مستقبلاً مستقراً وواعداً ومزدهراً للبلدين والشعبين، واضح لا لبس فيه، وطريق التذاكي والمكابرة والاستعلاء، لن يحقق شيئاً، بل سيفوت فرصة تاريخية، ويخدم أعداء شعوب المنطقة، ودولها التي بدأت معالم استهدافها تتضح أكثر، ومن يعتقد أنه ذكي وحاذق وبارع ويلعب على الحبال، عليه أن يفهم أن زمن المكابرة قد انتهى، ودمشق لم ولن تغلق أبوابها في وجه من يأتي صادقاً ومخلصاً، ويريد بناء أطيب العلاقات بغض النظر عن الماضي المأساوي الذي يجب أن نتعلم منه دون أن نكرره مرة أخرى، فطريق الخلاص هو حاجة للبلدين والشعبين والمنطقة، وهو واضح لمن يريد خلاصاً ومستقبلاً أفضل.
(سيرياهوم نيوز 4-الوطن)