تونس | كما كان متوقّعاً، انتهت الانتخابات التشريعية في تونس من دون ضجيج، باستثناء ذلك الذي تصاعد مع مرور ساعات التصويت في مكاتب اقتراع شبه مهجورة، احتفاءً أو تنديداً بالعزوف الشعبي عن المشاركة في الاستحقاق. ومن مجمل تسعة ملايين ناخب مسجَّل، لم يشارك إلّا نحو 804 آلاف فقط، في رسالة واضحة بأن التونسيين لم يعودوا راضين على المسار الذي اختطّه الرئيس قيس سعيد. لم يلتقط الأخير الرسالة من الدعوة إلى الاستفتاء على الدستور والإصلاحات السياسية التي أدخلها، واتجه، بدلاً من ذلك، إلى خطابات مطوّلة يدرأ بها عن نفسه تهمة انفضاض الطوق الشعبي من حوله، وقوله إنه تمّ «اختراق» خططه، وإن هناك أطرافاً عملت على إفشالها، وتجاهل كل المؤشّرات، ماضياً إلى تنظيم حوار وطني قاطعتْه كل الأطراف الوطنية، بصرف النظر عن موقف منظومة الحكم التي أزاحها سعيد في 25 تموز 2021، ومنه إلى استفتاء على الدستور لم يشارك فيه إلّا مليون شخص فقط.
لكن في فلسفة الرئيس وفكره، لا تهمّ النسب إذ تعوّد أن تكون إدارته للشأن السياسي على شكل الدروس التي كان يلقيها على الطلاب في منحى عمودي واضح لا يقبل الارتداد. وبمعنى أدقّ، قد يكون سعيد تنفّس الصعداء مع مرور الموعد الانتخابي التشريعي من دون خروقات انتخابية أو نقاش عام، إذ إن المهمّ بالنسبة إليه أن هناك برلماناً سينتصب بطريقة شرعية. وفي ذلك لم يخطئ سعيد، فالبرلمان حاز ثقة مَن ذهبوا للتصويت، وإن كانوا لا يرتقون إلى عُشر الشعب التونسي، والذنب ذنب الجالسين في البيوت الذين فضّلوا المقاطعة الضمنية بدل إغراق الصناديق بالأوراق البيضاء.
من جهتها، انصرفت هيئة الانتخابات لتختبئ وراء الحجج التي أسعفتها بها قريحة رئيسها، فاروق بوعسكر، الذي قال إن نسبة المشاركة جاءت هزيلة، لأنه غاب عن الموعد الانتخابي المال الفاسد والرشى الانتخابية والحملات الدعائية الحزبية والصراعات بين السياسيين قبيل كل انتخابات. وإن كان في حديث بوعسكر جانب من الصواب مقارنة بحجم الأموال الهائلة التي صُرفت على الدعاية والدعاية المضادة واستقطاب الأصوات في الانتخابات الماضية أو التي سبقتها، لكن في ما قاله اتهام صريح لملايين الناخبين بأنهم مرتشون، في حين أن كثيرين منهم لم يكونوا يتوجّهون إلى صناديق الاقتراع إلّا ليمارسوا مواطنتهم ويختاروا فعلاً مَن يمثّلونهم.
سيكون برلمان سعيد شرعيّاً، بُني على انتخابات لم يصفها أحد بـ«المزورة» أو «المدلسة»
قانوناً، سيكون برلمان سعيد شرعيّاً، بُني على انتخابات لم يصفها أحد بـ«المزورة» أو «المدلسة»، خلافاً للانتخابات السابقة التي حامت حولها كثير من الشبهات. ولكن سياسيّاً لن يكون لهذا المجلس الجديد سوى شرعية مهزوزة وضعيفة، وسيزيد من حدّة عزوف التونسيين عن المشاركة السياسية. لكن في نظر سعيد، فإن كلّ ما تقدّم لا يهمّ طالما توافرت الشكليات القانونية والإجرائية. ولم يجلب الاستحقاق اهتمام التونسيين بقدْر ما تهمّهم الآن تركيبة هذا المجلس وسَيْر العمل فيه. وتفيد الأنباء الأولية، في انتظار صدور النتائج النهائية بعد استيفاء الطعون في الـ20 من الشهر الجاري، بأن جزءاً لا بأس به من القوائم التي تشكَّلت وادّعت أنها تنتمي إلى حاشية الرئيس، حصلت فعلاً على مقاعد، وأن المترشّحين الموالين أو المنتمين لأحزاب سياسية موالية للرئيس أيضاً حصلوا بدورهم على مقاعد، فيما كان النصيب الأوفر منها للمترشّحين عن جهاتهم لدواع «عروشية»، أي قبلية. ووفق ما تبيّنه الصورة الأولية، فإن هذا المجلس النيابي لن يكون إلّا توليفة فريدة لمجموعة من الموالين اقتناعاً أو انتهازية للرئيس وبعض رجال الأعمال ومجموعة من الشخصيات التي صعدت لاعتبارات قبلية ليس أكثر. أما القراءة السياسية لهذا البرلمان، إن كان ذي غالبية تقدمية أو يمينية محافظة، موال أو معارض، فهي مستحيلة إلى غاية اللحظة لهجانة وغرابة النظام الانتخابي وتصوّر الرئيس الخاص الذي فرضه على الجميع. وبملاحظة أوليّة عامة، فإن جلّ الأسماء التي تشير عمليات الفرز الأولية إلى حصولها على مقاعد، هي من عائلات فكرية محافظة وتنحى إلى الشعبوية وتتبنّى خطاب الثورة والحقوق والحريات.