| لينا كنوش
أضحينا في عالم متعدّد الأقطاب… فهل يعي الأميركيون ذلك؟
ارتبط اسم جيرار آرو، الدبلوماسي الفرنسي السابق، بـ«الاستدارة الكبرى» التي قام بها الرئيس الفرنسي الأسبق، جاك شيراك، في السياسة الشرق أوسطية لبلاده، عندما قرَّر التطابق مع أجندة الولايات المتحدة في لبنان وسوريا. اتُّهم آرو، الذي صُنِّف على أنه قطب المحافظين الجدد في الخارجية الفرنسية، بالمساهمة في إقناع شيراك بالتخلّي عن «الحنين الماضوي إلى العظمة»، الذي كان أحد مرتكزات السياسة الديغولية، واعتماد مقاربة أكثر واقعية تعي محدودية قدرات باريس وأولويّة حفاظها على تحالف استراتيجي وثيق مع واشنطن. غير أن المواقف والتحليلات التي عبّر عنها الرَّجل، الذي كان سفيراً لفرنسا لدى الولايات المتحدة، وممثِّلاً دائماً لها لدى الأمم المتحدة، خلال السنوات الماضية، تضمّنت تحذيراً للأوروبيين من الانسياق خلف واشنطن في مجابهتها مع بكين، لتعارضه مع مصالحهم وممّا يراه انحداراً لأوروبا، لا لأميركا، في عالم يشهد تعديلاً للتوازنات يخشى أن يأتي على حسابها
سيد آرو، كنتم من أشدّ المتحمّسين للحفاظ على التحالف العابر للأطلسي، لكنكم وجّهتم، خلال السنوات الأخيرة، سلسلة انتقادات إلى السياسة الأميركية، ولغياب استراتيجية أوروبية مستقلّة. وفي ما يخصّ المواجهة مع الصين، أعلنتم، خلال محاضرة في «معهد كوينسيبان»، أن مصلحة واشنطن تقتضي احتواء هذا البلد، لكن قد لا تكون هناك مصلحة لأوروبا في ذلك. هل تستطيعون أن تقدّموا لنا المزيد من التوضيحات حول هذا الموضوع؟
– بدايةً، لا بدّ من التأكيد أننا أقرب إلى الولايات المتحدة من الصين، على مستوى القيم والمصالح. ولا شكّ في أن صعود الصين كقوّة عظمى يَطرح جملة تحدّيات مرتبطة بتداعيات ذلك على توازنات العالم. الاتحاد الأوروبي أعلن أن الصين «خصم نظامي» بالنسبة إليه، وليست عدوّاً أو تهديداً. إذا نظرنا إلى الأمر من الزاوية الاقتصادية مثلاً، سنجد أن بكين شريك ومنافس في الآن نفسه. ولكن، ونظراً إلى حجمها ووزنها، ومحاولاتها تصدير قيمها السلطوية، فهي خصم نظامي بالفعل. غير أننا لا نستطيع مقارنتها بالاتحاد السوفياتي. لا توجد دبابات صينية على مسافة 500 كيلومتر من باريس. من المنطقي أن تحاول الولايات المتحدة اقتيادنا خلفها في معركتها الاستراتيجية مع الصين، والتحدّي بالنسبة إلينا كأوروبيين، هو عدم الانجرار إلى هذا الاستقطاب. هذه لعبة دقيقة، لكن لدينا حلفاء، كما في آسيا مثلاً، حيث تخشى العديد من الدول صعود الصين، لكنها لا ترغب في الانضمام إلى أيٍّ من المعسكرَين الصيني أو الأميركي. فدولٌ كإندونيسيا وتايلاند والفيليبين، والتي لديها علاقات اقتصادية أقوى مع الصين من تلك التي تجمعها بالولايات المتحدة، لا تريد أن يُشيّد جدار في قلب آسيا شبيه بالجدار الحديدي الذي شُيّد في أوروبا خلال الحرب الباردة. علينا التعامل مع الصين من دون مثالية مفرطة. نحن نعلم أنها لا تحترم قواعد «منظّمة التجارة العالمية» في الميدان التجاري. علينا أيضاً توخّي الحذر عندما تسعى إلى شراء شركات ذات أهمية استراتيجية بالنسبة إلى أوروبا. غير أن الخصومة النظامية لا تعني وجود تهديد عسكري، وهي بالتالي لا تتناقض مع إمكانية تطوير شراكات في مجالات متعدّدة. هذا يعني أنّنا لسنا مجبرين على الانضمام إلى «ناتو» آسيوي موجّه ضدّها.
الحرب في أوكرانيا طويلة ولا مفاوضات في الأفق
هل تعتقدون أنه كان يمكن تجنُّب الحرب في أوكرانيا، وهل تَرَون أن أوروبا قادرة على القيام بدور إيجابي لوقْفها؟
– تحديد المسؤولين عن اندلاع هذه الحرب هو شأن المؤرّخين. لا نزال إلى اليوم نتناقش حول تحديد المسؤول الفعلي عن انفجار الحرب العالمية الأولى. بعد هذه الحرب، وخلال حوار حول هوية المسؤول عنها، قال جورج كليمنصو، رئيس الوزراء الفرنسي آنذاك، ردّاً على رأي مدافع عن ألمانيا، قائلاً إن المبادِر إلى الهجوم لم يكن بلجيكا بل ألمانيا. لم تهاجم أوكرانيا روسيا. لكن مثل هذه الحوارات هي شأن المؤرّخين. المهمّ اليوم هو معرفة كيفية إنهاء الحرب والتوصُّل إلى حلّ يضمن استقلال أوكرانيا. الواضح الآن هو عدم توفّر إرادة للتفاوض لدى فريقَي النزاع. الأوكرانيون يعتقدون أنهم سينتصرون بعد نجاحاتهم الأخيرة، والروس يريدون استعادة المواقع التي خسروها، ما يعني أن الحرب ستستمر لأشهر طويلة. سنرى، مع حلول الربيع، إذا ما كان إنهاك الطرفَين أو انتصار أحدهما سيفرض خيار التفاوض. لقد نسي الأوروبيون أن مآلات الحرب تُحسَم في ساحة المعركة. الأميركيون، حلفاء أوكرانيا، باتوا يدافعون عن مقاربة واقعية. أظنّ أن إدارة (الرئيس الأميركي جو) بايدن لم تكن تتمنّى مثل هذه الحرب، لأنها تمنعها من التفرّغ لأولويّتها الاستراتيجية، وهي الصين. روسيا ليست مهمّة من وجهة نظرها، وهذا ما يفسّر بدايةً استدارتها نحو آسيا قبل الحرب، وابتعادها التدريجي عن أوروبا. اندلاع الحرب أجبرها على العودة إليها. لاحظوا أيضاً أن هذه الإدارة لا تقدّم لأوكرانيا جميع الأسلحة التي تطلبها، كالمقاتلات أو الصواريخ البعيدة المدى. رئيس هيئة الأركان الأميركية (مارك ميلي) قال أخيراً إن أوكرانيا لن تستطيع استعادة جميع أراضيها، كما أكد (وزير الخارجية) أنتوني بلينكن أن واشنطن ستدعمها حتى تتمكّن من السيطرة على الأراضي التي تمّ احتلالها بعد 24 شباط، ما يعني أن هذا الدعم قد يتوقّف إذا ما قرّرت كييف محاولة استعادة الدونباس أو القرم. الإدارة الأميركية واقعية، على عكس الأوروبيين المنقسمين. فهناك بلدان، كبولندا أو دول البلطيق، المدعومة من بريطانيا، تريد، لأسباب تاريخية وجغرافية، خوْض المعركة حتى النهاية. وهناك أيضاً دول كفرنسا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا والبرتغال تؤيّد وقْف الحرب بأسرع وقت. أعتقد، للأسف، أنها ستستمرّ لمدّة طويلة، وأنها قد تتحوّل إلى نزاع منخفض التوتّر، لأنّني لا أرى إمكانية للتفاوض حالياً.
– كنت دائماً من الرافضين للحرب على العراق لأنني اعتبرتها غبية وإجرامية، وذكرت ذلك في مذكّراتي. بنظري، هي نتاج لجنون أميركي على المستويات الجيوسياسية والسياسية والقانونية. لكنني، من جهة أخرى، لست مقتنعاً بالخطاب حول انحدار الولايات المتحدة بسبب تورُّطها في الشرق الأوسط. كل عشر سنوات، يجري الحديث عن انحدار أميركي، لكنّ الوقائع مخالفة لمثل هذا الاستنتاج. أوروبا تنحدر، ولأسباب ديمغرافية أساساً، لا الولايات المتحدة. ما نشهده هو تعديل في التوازنات بين القوى الدولية يتمّ بالإجمال لغير صالح الغربية منها. لم تنحدر أميركا، لكن قوى أخرى تنامى دورها، كالصين مثلاً، وهذا ما يفضي إلى التعديل الذي ذكرت. ونحن نرى اليوم حيوية في المجتمع والاقتصاد الأميركيَّين، بينما تَظهر على الصين بعض علامات الضعف. لكن من الواضح أنّنا في حقبة نهاية سيطرة الغرب، الذي لم يَعُد قادراً على فرْض شروطه، وقد تجلّى ذلك خلال الحرب الأوكرانية. فحتى ولو لم توافق بقيّة دول العالم على الغزو الروسي، فهي تنظر إلى هذه الحرب على أنها تعني الغربيين، ولا تريد التدخّل في مجرياتها. لقد أضحينا في عالم متعدّد الأقطاب، لكنني لست متأكداً أن الأميركيين يَعون ذلك. المشكلة هي أن الحرب في أوكرانيا أعادت إحياء تحالف غربي منغلق على نفسه. منذ سنتَين، صرّح الرئيس الفرنسي (إيمانويل ماكرون) بأن «الناتو» في حالة موت سريري، غير أنه بُعث اليوم، وأصبح أكثر قوّة من السابق، ومن الممكن نسيان فكرة الدفاع الأوروبي المشترك. الأهم بالنسبة إلى جميع الدول الأوروبية، باستثناء فرنسا، هو التحالف مع واشنطن. بدلاً من أن يدرك الغرب الحقائق الدولية الجديدة وينفتح على الآخرين، ويعترف بوجود مصالح متباينة، هو ينطوي على نفسه كقلعة محاصرة. وسيكون للانتخابات الرئاسية الأميركية في عام 2024 تأثير كبير على وجهة التطوّرات.