يقول البروفيسور قنسطنطين سوخوفيرخوف: مفهوم “الحصرية الأميركية” في القرن العشرين أخذ منحى توسعياً على خلفية تصور الولايات المتحدة نفسها زعيمة “العالم الحر بأسره” والمقاتلة الأولى ضد الشيوعية.
يتحدث منسق البرامج في المجلس الروسي للشؤون الدولية، البروفيسور قنسطنطين سوخوفيرخوف، على صفحات جريدة “إزفستيا” المسكوفية عن إمكانية رفض مفهوم الأحادية والتفوق الأميركيين، وبدء تفكك منظومة القبضة الأميركية على العالم، في مقال تحت عنوان “كل شيء في أوانه”.
وفيما يلي نص المقال منقولاً إلى العربية:
سيكون القرن الحادي والعشرون قرن أميركا. هذا ما اعتقده العديد من الأميركيين، وتقريباً النخبة السياسية الأميركية بأكملها في أواخر تسعينيات القرن العشرين والعشرية الأولى من القرن الحادي والعشرين. في ذلك الوقت، بدا حقاً للعالم أجمع أن الولايات المتحدة قد حققت هذا المستوى من الهيمنة لدرجة أنه من غير المحتمل أن يتمكن أي طرف في المستقبل المنظور من تحدي واشنطن أو حتى إعادة النظر في الوضع السائد على الساحة الدولية.
يُنظر اليوم إلى الهيمنة الأميركية خارج الولايات المتحدة على أنها شيء ضار. على سبيل المثال، في الاتحاد الأوروبي، على خلفية الأحداث الجيوسياسية الأخيرة، يشعر الأوروبيون بخيبة أمل شديدة من قانون خفض التضخم، الذي يخلق صعوبات للمنتجات الأوروبية في السوق الأميركية. وقد أعرب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بعد زيارته الأخيرة للولايات المتحدة، عن استيائه من نهج واشنطن، الذي يتجاهل في الواقع مصالح الحلفاء الأوروبيين. علاوة على ذلك، يلمح الاتحاد الروسي والصين وبعض الدول الأخرى بانتظام إلى أن “الحصرية الأميركية” هي التي تمنع إنشاء عالم دائم متعدد الأقطاب.
يبدو أن شعار “أميركا أولاً” مرتبط بالرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب وليس بخليفته جو بايدن. ومع ذلك، من الصعب حقاً تذكر لحظات في تاريخ الولايات المتحدة عندما كان هذا البلد يسترشد بنهج مختلف. من بين العوامل الرئيسة التي قادت النخب السياسية الأميركية إلى فهم حصريتها كانت الرغبة في تحرير الحياة العامة وإضفاء الطابع الديمقراطي عليها (بالمناسبة، كانت الحياة في المستعمرات البريطانية في أميركا الشمالية حرة جداً وفقاً لمعايير القرن الثامن عشر).
حتى قبل الثورة الأميركية، كتب الآباء المؤسسون للولايات المتحدة عن أوجه القصور في النظام الملكي وأهمية الحريات لكل شخص. لقد كانوا، مثلهم مثل الأشخاص المتشابهين في التفكير، من المثاليين إلى حد ما، الذين استلهموا أفكارهم من ديمقراطية الفترة الجمهورية في روما القديمة، حيث كانت هناك سلطة للشعب وتنظيم واضح للدولة. بالمناسبة، لهذا السبب تعكس رموز “الدولة” الولايات المتحدة الرموز الرومانية القديمة بنسبة كبيرة.
في ذلك الوقت، كان من الصعب الجدال مع سياق مثل هذا التفسير للحصرية. أصبحت الولايات المتحدة أول دولة منذ مئات السنين تبني مؤسسات ديمقراطية. لطالما كان هذا الفهم “للحصرية” موجوداً في الحياة السياسية الأميركية. على الرغم من أن هذا المبدأ قد تجلى ليس فقط في إطار المناقشات الفلسفية، ولكن أيضاً في تجسيد المصالح الأميركية الحصرية، عبر ضم جزء من أراضي الإمبراطورية الإسبانية (على سبيل المثال، تكساس وكاليفورنيا، والاحتلال المؤقت لكوبا) أو عبر حرب 1812-1815 مع بريطانيا العظمى لتوسيع الأراضي الأميركية.
إلا أن مفهوم “الحصرية الأميركية” في القرن العشرين أخذ منحى توسعياً على خلفية تصور الولايات المتحدة نفسها زعيمة “العالم الحر بأسره” والمقاتلة الأولى ضد الشيوعية. ونتيجة لذلك، بدأت الولايات المتحدة تنظر إلى نفسها على أنها دولة فريدة سياسياً من حيث مستوى حريات المواطنين، خاصة من الناحية الثقافية والاقتصادية. تم تطوير هذا النهج بعد نهاية الحرب الباردة، حيث أدركت الولايات المتحدة أن الاقتصاد الليبرالي والقيم الديمقراطية هي التي سمحت لواشنطن وحلفائها بالتغلب على الاتحاد السوفياتي. أما اليوم، فيتم الترويج للفكرة من قبل ممثلي الحزب الجمهوري بشكل خاص، وهو ما كان ملحوظاً خلال انتخابات التجديد النصفي الأخيرة، على الرغم من الإشارة إلى هذا المفهوم مراراً وتكراراً من قبل الرئيس السابق باراك أوباما وديمقراطيين آخرين.
على الرغم من أن فكرة “الحصرية” لا تزال قوية في الولايات المتحدة، إلا أن عليها أن تناضل من أجل وجودها اليوم. حلفاء الولايات المتحدة في أوروبا، على الرغم من أنهم يتّبعون السياسة الخارجية لواشنطن، إلا أنهم باتوا يشككون في تصرفات أصدقائهم الأميركيين في العلن. بالإضافة إلى ذلك، يُنظر إلى الصين على أنها قوة قادرة على تقويض الهيمنة الأميركية، من الناحية الاقتصادية في المقام الأول. في الواقع، كانت بكين تفعل ذلك في السنوات الأخيرة، معززة مصالحها في منظمة التجارة العالمية والمنظمات الدولية الأخرى، مثل برنامج الأمم المتحدة للبيئة. أما روسيا اليوم، كما في القرن الماضي، تطرح تساؤلاتها علناً عن الهيمنة السياسية للولايات المتحدة في الساحة الدولية.
في ظل هذه الظروف، بدأ يتبدّى واقع لا مكان فيه “للحصرية الأميركية” في السياسة العالمية. قد يكون السياسيون المحليون قادرين على تبرير “ميزة” بلدهم لسكانهم، لكن هذا المفهوم بالتأكيد لن يجد فهماً واسعاً بين اللاعبين الرئيسيين الآخرين، مثل الاتحاد الروسي والصين والاتحاد الأوروبي.
سيرياهوم نيوز1-الميادين