تونس | رفع «الاتحاد العام التونسي للشغل»، في وجه الرئيس قيس سعيد، الورقة الصفراء، منذراً بمتاعب كبرى سيواجهها هذا الأخير، بالنظر إلى أن كلّ الماكينات الحزبية التي عرفتْها البلاد فشلت في هزم ماكينة الاتحاد، فما بالك بالرئيس الذي لا ماكينة له إلّا بضعة أفراد غير منتظمين من ذوي الخطاب الشعبوي. لم يتلقّ سعيد، خلال سنة كاملة، رسالة المنظّمة النقابية التي نقلتْها عبر نأيها بنفسها عن الصراع بين اليمينَين الديني والشعبوي، ورفضها التدخّل لترجيح كفّة أحدهما على الآخر حتى لا تتحمّل في ما بعد مسؤولية ما قد يتورّطان فيه، وبخاصة «حزب النهضة» الذي عادتْه طويلاً. مع ذلك، اعتبر الاتحاد، الذي ساند سعيد لأشهر قليلة عقب إجراءات 25 تموز 2021، أن تَناقضه مع اليمين الشعبوي أقلّ خطورة، خصوصاً إذا ما التزم الرئيس بالحدود التي يرسمها الأوّل في ما يتعلّق بالحقوق النقابية والسِلم الاجتماعي.
لكن عِوض أن يتلقّى سعيد هذا الانفتاح بالمِثل، لم يتردّد في التصادم مع المنظمة النقابية وتحجيم دورها، وبالغ في تغييبها عن خُططه على غِرار حواره الوطني حول الدستور والاستفتاء على الإصلاحات الدستورية، وهو ما لم يَعتبره الاتحاد حرباً معلنة، مكتفياً إزاءه بإطلاق أوّل صافرة إنذار، خصوصاً أن لديه تعريفه الخاص للخطوط الحمراء التي إنْ تجاوزتها السلطة السياسية، تكون لِزاماً مجابهتها. إلا أن سعيد مضى في مضاعفة أخطائه، موعزاً إلى حكومته برئاسة نجلاء بودن بالتفاوض مع «صندوق النقد الدولي»، على أساس الالتزام بخصخصة مؤسّسات عمومية هي عماد الاقتصاد الوطني، علماً أن حكومات منظومة «النهضة» المتتالية فشلت في تنفيذ هذا الالتزام. ويمثّل الموظّفون المنويّ تسريحهم القاعدة الأساسية للمنظّمة النقابية، والضمانة الأهمّ لعدم تفكّكها وبروز منظمات نقابية أخرى منافِسة، بالتالي فإن المساس بهم يُعدّ بمثابة تقويض لأساساتها تمهيداً لإسقاطها. يُضاف إلى ذلك، أن الحكومة تجاوزت خطّاً أحمر آخر، عبر قانون المالية لسنة 2023 الذي وقّعه الرئيس ونشره قبل أيام. وعلى رغم أن تضمين القانون أعباء ضريبية جديدة على عاتق المواطنين والشركات على نحو منفّر للاستثمار، كان متوقّعاً في ظل شحّ موارد موازنة السنة المقبلة، إلّا أن نقض كلّ الاتفاقات التي وقّعها الاتحاد مع السلطة لم يكن محلّ اتفاق مسبق.
يؤكد «الاتحاد العام التونسي للشغل» أن هدف الحوار الوطني إيجاد مخرج للأزمة السياسية أساساً
إزاء ما تَقدّم، لم يَجد الاتحاد بدّاً من الخروج عن صمته، لا سيما في ظلّ نتائج الانتخابات التشريعية التي ظهّرت الإحباط الشعبي الناتج من غياب الحلول السياسية والإخفاق في إدارة الأزمتَين الاقتصادية والاجتماعية. وفي حين كان متوقّعاً أن تعلن المنظّمة بدء التحرّكات الشعبية، فقد بدا أنها أجّلت هذه الخطوة إلى وقت لاحق، أو لعلّها تنتظر اندلاع الاحتجاجات بشكل عفوي لتلتحق بها وتتبنّاها حتى لا تُحمّل مسؤولية تهديد الاستقرار. في هذا الوقت، أعلن الأمين العام للاتحاد، نور الدين الطبوبي، بدء المشاورات من أجل عقد حوار وطني، بمساندة شريكَيه التاريخيين، «الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان» و«الهيئة الوطنية للمحامين»، في مشهد يعيد إلى الأذهان سيناريو عام 2014. ولا تسعى المنظّمات الثلاث إلى إزاحة سعيد من الحُكم، على اعتبار أن الرجل منتخَب ديموقراطياً بأعلى نسبة أصوات منذ الانتفاضة، وأن أيّ دفع نحو إزاحته بغير الانتخابات يعدّ سيراً بالبلاد نحو الفوضى. وهي تعي أيضاً أنه لا بدائل اليوم على الساحة السياسية، خصوصاً أن «النهضة» هي التي تقود المعارضة، فيما الأحزاب المعارضة الديموقراطية واليسارية والاجتماعية متفكّكة، وآخرها حزب «التيار الديموقراطي» الذي استقالت قياداته منذ أيام، معلنةً أن أحزاب الحكم والمعارضة غير قادرة على قيادة أيّ حراك سياسي، وتجاوزتْها إرادة التونسيين.
على أن هذه التهديدات لم تثنِ المنظّمات الثلاث عن المضيّ في مبادرتها، والبدء بالتحشيد الإعلامي من أجلها، بل استغلّت الردّ على تصريحات سعيد للتوضيح أنها لا تهدف إلى إسقاط الرئيس، وإنما إلى إخراج البلاد من نهج التفرد بالحكم. ولكنها في العمق، إنما ترتّب لمرحلة ما بعد انتخابات العام 2024 مسبقاً، عبر حوارها الوطني، ومحاولة وضع أسس حُكم جديدة مغايرة لتلك التي وضعتها منظومة «النهضة»، وأيضاً التي فرضها سعيد، لعلّها عبر الحوار تنجح في فرض ممارسة سياسية ديموقراطية تعددية حقيقية من بوابة الانتخابات المقبلة.