| سعد الله مزرعاني
المعاناة أضخم من أن توصف. الخسائر أفدح من أن تُعدّ أو تُحصى. الارتكابات ارتقت إلى مستوى الجريمة باستهدافها شعباً ودولة ووطناً. والأنكى أن الكارثة مستمرّة. لا مؤشرات، حتى الآن، وبعد ثلاثٍ عجاف، إلى وقْف الانهيار وإلى تدارك وتفادي المزيد من الكوارث والآلام.
إلّا أنه، وعلى رغم ما أشرنا فقط إلى عناوينه، ثمّة ما هو أدهى وأخطر. إنه المخادعة في تمويه أسباب الأزمة ــ الكارثة، وفي التمسُّك بمصدر الخلل والعجز والفشل، وفي استمرار المداواة بنفس الداء! هذا سبب آخر وأخطر لمراجعة المقاربات في شأن الأزمة: في أسبابها وفي تفاقمها، وفي المسؤوليات عنها، وفي العجز عن علاجها، وبالتالي، في استفحال أضرارها ومخاطرها. ولعلّه من الأجدى، في نهاية هذه السنة، وهي السنة الثالثة للكارثة المتمادية، أن نتوقّف عند هذه المسألة لا أن نستغرق، فقط، في تعداد الضحايا والخسائر: ما هو قائم وما هو متوقّع، وكلاهما مخيف وقاتل ومدمّر ومجرم!
ما يبعث على التعجّب والاستفزاز أكثر، أن الطغمة الحاكمة، لم تفلت فقط من الحساب فالعقاب، كلياً أو جزئياً، بل هي عموماً، وبعضها خصوصاً، أمعن في السعي إلى تأبيد النظام الفاشل عبر المزيد من توطيد أركانه وتعميم «فضائله»… أما بعضها الذي يدّعي التمايز والمعارضة، فيروّج للانقسام في حال فشلت أهداف أسياده أو تعذّرت تسوية جديدة للتقاسم. هذا ما يجري التحضير له حالياً، بشكل صريح يتردّد في الإعلام، ويُعدّ له في الغرف المغلقة السوداء، الداخلية والخارجية. أمّا الذريعة الجاهزة، فهي تناقض الثقافات والعادات والسياسات والتوجهات والعلاقات الخارجية.
يقع الإعداد أو التخطيط أو التلويح بالتقسيم، أساساً، في نطاق مشروع تآمري تفتيتي شامل ومتواصل. تَوسّل ذلك المشروع، في لبنان، أشكالاً عديدة: عسكرية، كالغزو الصهيوني للبنان عام 2006، وقبله عدوان 1982. ثم، سياسية، عبر محاولة السيطرة على السلطة واستخدامها في إثارة نزاع داخلي. ومن الأساليب المعروفة أيضاً، القديمة ــ الجديدة، إثارة الفتن الطائفية والمذهبية. اتخذ ذلك المشروع، في العقدَين الماضيَين، خصوصاً منذ الغزو الأميركي للعراق واحتلاله عام 2003، صيغة «الشرق الأوسط الكبير» (البوشي)، من ثمّ صيغة «صفقة القرن» (الترامبيّة). وكلاهما رمى إلى الهيمنة على منطقتنا، كما استهدف دعْم مطامع وعدوانية المشروع الصهيوني، وخصوصاً ضرب المقاومة ضدّه. تلك المقاومة التي تميَّز بها الشعب اللبناني واستطاعت أن تتحوّل إلى عامل مؤثِّر في التوازنات الإقليمية، ومحفِّز على مستوى مجمل الصراع مع العدو الصهيوني المغتصب والطامع (وخصوصاً في صفوف الشعب الفلسطيني).
في مجرى استعراض القوى التي تتحدّث عن «الإصلاح»، تقع تلك الفئة التي تضع على رأس أولوياتها مسألة تغيير، معادلات وتوازنات التقاسم والتحاصص في النظام الراهن، وعلى قاعدة تكريسه وتأبيده! ويمثّلها، اليوم، بامتياز «التيار الوطني الحر» الذي ينادي، بالنسبة إلى الطور الحالي من الأزمة، بتكامل صفقة التسوية ما بين موقعَي رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة. وهو قد أشار، في غير مناسبة، قديمة وجديدة، إلى وجوب إحداث سلسلة تغييرات في الصلاحيات والتوازنات، وإلى إجراء تعديلات دستورية تطيع بعض إصلاحات «الطائف» التي لم يُطبّق أصلاً الأساسي المهمّ منها! كرّر التيار العوني في هذا الصدد، مطالبته، أيضاً، باعتماد «اللامركزية الإدارية والمالية»… والفدرالية: إذا تعذّر تحقيق الأساسي من مطالبه!
هكذا، فيما تتفاقم الأزمات، ومعها المعاناة والخسائر، وفيما بلغ بعض «الثوار» حافة اليأس (بإلقاء المسؤولية على الشعب!)، هل يصل الحريصون على لبنان وإنجازات شعبه (في حقل المقاومة خصوصاً)، وقوى التغيير الجذري، والمتضررّون الذين يشكّلون الأكثرية الساحقة من الشعب اللبناني، إلى وضع الإصبع على الجرح وتحديد سبب المشكلة، ومن ثمّ، السعي إلى علاجها عبر مشروع وطني جامع؟
ذلك هو الرهان الإنقاذي الوحيد الذي ينبغي أن تُبذل من أجله الجهود وتُجنَّد الطاقات.