يارا الناصر
يعود اسم دير عطية إلى القائد تيودوس بولس في زمن الرومانيين. وتعد مدينة دير عطية من أكثر مدن وبلدات القلمون تأسيساً وبناءً للفنادق والمطاعم والمنتزهات والمرافق السياحية.
دير عطية، القرية التراثية التي تشكل همزة وصل بين الماضي والحاضر، وهي مركز لاستقطاب السياح والرحل المدرسية. فماضيها يذخر بالحضارة والتراث والعمل والإنتاج، ما جعلها تحضن التاريخ بيد، وتخاطب وتحاكي التطور باليد الأخرى. فهي أول بلدة يوضع لها مخطط عمراني في عام 1934، فتمتاز بالشوارع المتوازية والعريضة، منفتحة على العالم عبر ما تضمه من مشاريع حرارية وتراثية، منها دور للمسنين وقرية لذوي الاحتياجات الخاصة والمتحف الذي يعتبر من أهم المتاحف الموجودة في المنطقة.
من حول الموقد، يسترجع زيدان عبد السلام (64 عاماً) ذكرياته وحنينه لجلسات فصل الشتاء في قريته، والذي قلّما يعيشه بسبب غربته، “فلطعم التين اليابس والزبيب والجوز والرمان في مجلس الأقارب والمعارف خصوصية مع ذكريات المرح على أنغام المجوز وصوت الربابة وكلمات شاعر الزجل والعتابا وكلمة الميجانا التي تشتهر فيها دير عطية، كلها ترد الحنين إليّ في بداية كل شتاء”.
الحالة الاجتماعية التي يسودها التكاتف والتعاون كانت تتمثل بشكل جلي في مواسم تحضير العنب ليكون زبيباً ودبساً، وما تحمله هذه الفترة من ذكريات فرح تجعله يوماً منتظراً لكل أفراد العائلة كباراً وصغاراً، ويذكر كبار السن أن هذا اليوم كان يعتبر عيداً عندهم ولهذا يُسمّى لغاية اليوم عيد الصّليب.
الأعياد الكثيرة كانت تتوالى في حياة البلدة وتتنوع لترضي جميع الأديان والأعمار والفئات، فهي مدخل الفرح إلى النفوس وحتى عهد قريب، كانت التلة التي يقام عليها مزار الشيخ عطية مقصداً للكثير من أبناء البلدة والقرى المجاورة طلباً منهم بالتبريكات، نظراً لما يدور حول هذا المكان من معتقدات دينية عند أهالي البلدة من مسلمين ومسيحيين، فهم يعيشون فيها في جو من التسامح والألفة.
حضارة متجذرة في نفوس أبناء دير عطية
القرية التراثية المتكاملة البنيان اختصرت غنى التاريخ السوري وعززت فكرة حفظ التراث بثقافة أبنائها الحضارية، التي تتوالى جيلاً بعد جيل، فكانت مركزاً لاستقطاب السياح وتفعيل السياحة الداخلية، بما فيها الرحل المدرسية للتعرف إلى التاريخ السوري.
تحتل دير عطية المنحدر الشمالي لهضبة القلمون بين سلسلة الجبال غرباً وجبل دير عطية شرقاً، وتتوسط الطريق الدولي دمشق حمص شمال مدينة النبك 8 كم، وتتمتع بمناخ معتدل صيفاً وبارد شتاءً على ارتفاع 1250 متراً. طبيعة هذه المنطقة جافة، وكانت سبباً لاغتراب أهلها شرقاً وغرباً، حيث سافر الكثير منهم في أوائل القرن العشرين إلى الأميركيتين، وكذلك سافروا بعد ظهور فرص العمل في الخليج وشرق آسيا.
المهندس زاهر المصطفى (63 عاماً) ذكر للميادين نت المراحل النهضوية المتتالية التي مرت بها المنطقة، حيث سادت مراحل العمل فيها ظروفاً إيجابية أحياناً، وأخرى كان يملؤها التحدي، لكن الصبر والإصرار على الوصول إلى أرقى المستويات كان السمة الدائمة لهذه المدينة، مما جعلها درّة متألقة بين جارتها منذ القدم.
مرت المنطقة بمراحل نهضة متتالية، فاقترنت النهضة الأولى بداية تاريخ دير عطية الحقيقي بالنهضة العمرانية، التي عمت بلاد الشام بعد تحرير القدس على يد صلاح الدين الأيوبي، حتى استقرت فيها أسرة أيوبية، على رأسها سيدة تدعى صالحة خاتون. أما النهضة الثانية فكانت مع بداية الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وكان طابعها ثقافياً واقتصادياً واجتماعياً. أنشئت فيها مدارس معاصرة لمدارس لبنان لمختلف الإرساليات الأجنبية، كانت تدرّس باللغة العربية، ورافق ذلك نشاط الهجرة إلى العالم الجديد.
أما النهضة الثالثة وهي النهضة الحالية، التي بدأت منذ سنة 1982، ولا تزال مستمرة، فتمثّلت بالتشجير المثمر والرعوي في جبل البلدة ومحيطها وشوارعها، وحفر الآبار العميقة، وإنشاء السدود السطحية، التي مكنت من تحويل مجاري السيول إلى غابات وحدائق، وحدث توسع عمراني كبير، رافقه شق الشوارع الجديدة وتعبيدها ورصفها وإنارتها.
بالإضافةً إلى تعزيز وإنشاء مؤسسات خدمية رفيعة المستوى كمشفى الباسل المجهز بأحدث الأجهزة، والمتحف، وقصر الثقافة، والمدينة الرياضية، والحمام، ودار المسنين، وقرية ذوي الاحتياجات الخاصة المزودة بكل التقنيات والوسائل التي تساعد الطفل على أن يتربّى في بيئة تُطوّره كي يكون مفيداً للمجتمع، وعدد المستفيدين منه يقارب 350 طفلاً. وتتميز دير عطية بمتحفها الذي يضم آثاراً من كل العصور التي مرت بها. إضافة إلى المدينة الرياضية، كما يوجد فيها مركز ثقافي، وأقيمت فيها أول جامعة خاصة وهي جامعة القلمون.
بوابة الانفتاح والتعاون بين سكانها ومغتربيها
دير عطية هي البلدة التي شارك فيها وتعاون على بنائها مغتربو البلدة وأهاليها، وعلى رأسهم الراحل محمد ديب دعبول “أبو سليم دعبول”، الذي ارتبط ازدهار المنطقة باسمه، وكان ذلك أحد الأسباب التي جعلت الناس يتعارفون على مناداته بالعم أبو سليم، فقد كان له الفضل في تطورها والاهتمام بتراثها وعمرانها.
آلاء عرفة (38 عاماً) من أهالي المنطقة، حدّثت الميادين نت عن ثقافة التعاون السائدة في البلدة قائلة: “خصوصية التعاون بين أبناء البلدة داخلياً وخارجياً هي التي جعلت للمنطقة أهمية، جميعنا حريصون على متابعة أعمال النظافة والتطور والحفاظ على أدق التفاصيل بأيدينا، لأن العمل ينبع من الإنسان، ولا يحتاج إلى أيادٍ خفية وموظفين. نحن نعمل ونفكر وأهلنا في المغترب يساندوننا”.
وأردفت عرفة: “المبادرات تأسست وتعممت مع الراحل العم أبو سليم، كان هو مرشدنا ومعلمنا للخير. علمنا أن نحافظ على الشيء الذي بناه فإحدى المبادرات هي موضوع النظافة التطوعي، ففي صباح كل يوم جمعة كان هو قدوتنا قبل كل الناس يكون واقفاً مع عامة الناس يشارك مسؤولي البلدة وعامتها عملية تنظيف بلدتنا، من مبدأ أنها بيتنا الكبير. ومن هذا المكان والعمل أسسنا فكراً لأطفالنا الصغار، لا يوجد لدينا حاويات للقمامة، توجد أوقات محددة لرمي القمامة يلتزم فيها جميع السكان ويأخذون على عاتقهم رمي القمامة بعد انتهاء عملية الجمع”.
إضافةً إلى مبادرات دعم المدارس والطلبة وتخصيص رواتب إضافية للموظفين والعاملين في قطاع الدولة، وإنارة الطرقات بالألواح الشمسية، وتخديم المؤسسات العامة.
تتبسم هلا زين الدين (42 عاماً) بينما تتحدث للميادين نت عن مبادرة قصر الثقافة للطلاب الذين لا يجدون كهرباء أو تدفئة في بيوتهم، وليس لديهم إمكانية التسجيل في دورات أو دروس خاصة، وتقول: “قامت جمعية أصدقاء القلمون في دير عطية ببناء قصر الثقافة ليكون مُضاءً ليلاً عن طريق تمديده بالخط الذهبي، وتأمين التدفئة شتاءً، واستقبال الطلبة يومياً من الساعة 2.30 ظهراً حتى 7.30 مساءً، واختارت كادراً من الأساتذة القديرين لكل المواد ولجميع المراحل وحتى الجامعية وكل ذلك مجاناً، ويستوعب المكان 450 طالباً. وتتضمن خدمات ومبادرات خيرية قلما تجدها في مراكز المدن والعواصم، لكن في دير عطية هي موجودة وبفخر”.
“اجتماع السواعد يبني وطناً واجتماع القلوب يخفف المحن”، بهذا القول بدأت سهام العبد الله (54 عاماً) حديثها إلى الميادين نت، مُركّزة على امتهان السيدات للصناعات اليدوية في دير عطية. وقالت إنّ المبادرات ظهرت منذ بداية أعوام الأزمات والحرب، فأصبحت بعض السيدات بحاجة إلى معيل، فطُرحت المبادرة من وجهاء المنطقة وتم الدعم من الأمانة السورية للتنمية والمغتربين. وكان الهدف من العمل هو إيجاد بيئة مناسبة للتنمية الريفية، عبر وحدات الصناعات الريفية وتدريب أبناء الريف في مجال الحياكة والخياطة والسجاد اليدوي والمؤنة المنزلية وشغل “السنارة” والملبوسات الصوفية، وذلك من خلال إقامة دورات تدريبية متنوعة وتهيئة فرص عمل للعاملين بالصناعات التقليدية وتشغيلهم في الوحدات بحسب الإمكانيات المتوافرة فيها، لتأكيد أهمية عمل المرأة وتطوير مهاراتها، من أجل تأمين دخل مادي يكون مصدر رزق. وجميع المشاريع ممولة من أبناء البلدة المغتربين الذين يزورون البلدة بشكل دائم هم وأولادهم، ليبقى المغترب على تواصل دائم مع بلدته.
يذكر أن بلدة دير عطية يبلغ عدد سكانها 31 ألف نسمة، وتعتمد في حياتها الاقتصادية على زراعة الأشجار المُثمرة كالعنب والمشمش والجوز والإجاص، وقد أدت هذه المحاصيل الزراعية إلى ازدهار الصناعة الغذائية من دبس وقمر الدين، وهي من المنتجات المعروفة والمتميزة بطعم لذيذ لا يتصف به غيرها، وامتد نشاط الأهالي في مجال صناعة البسط والعباءات المصنوعة من صوف الغنم وشعر الماعز ووبر الجمال.
وحتى وقت قريب تضم دير عطية سوقاً يُسمى بسوق الحدادين، والذي يضم في جنباته صُنَّاعاً مهرة يُنتجون ما يحتاج إليه الفلاحون من معدات تُستخدم في الزراعـة وفي حياتهم اليومية وكانت صادرات هذا السوق تصل إلى القرى المجاورة ودخلت في المنافسة مع المدن الأخرى.
سيرياهوم نيوز1-الميادين