محمد فرج
الزمن عنصر حاسم في المعارك: لم تكترث الصين لتطور القوة الجوية الأميركية، ولم تفكر في اللحاق بها بسرعة. هي، ببساطة، لم ترغب في تطوير الإمكانات الأقل أولوية في المعركة من باب اللحاق بطرف آخر.
“لا يمكن القول إن الصين لاعب كبير جديد، لأنها ببساطة أكبر لاعب في تاريخ العالم” – لي كوان يو – سياسي ماليزي
إذا كانت الصين هي القوة الإمبراطورية الجديدة في العالم، والولايات المتحدة إمبراطورية هابطة (وليس بالضرورة منهارة)، وإذا كانت الملامح الإمبراطورية، من بكين إلى واشنطن، تحمل كثيراً من وجوه الخلاف، فإن العامل الحاسم في الصراع الدائر هو فجوات القوة بين الطرفين، وكيفية توظيفها واستيعابها من كل طرف.
هنالك عدد كبير من المؤشّرات، التي تم العمل عليها من جانب مراكز الدراسات والبحوث، على دراسة فجوات القوة بين الطرفين، وأهمها الجانبان العسكري والاقتصادي، والتمثيل السياسي في الهيئات الدولية، والتغلغل، اجتماعياً وثقافياً… إلخ. نختار اثنين منها هنا، هما: القوتان التجارية والمالية، والقوة العسكرية.
القوتان التجارية والمالية
بحسب دراسة مهمة بعنوان “المنافسة الاقتصادية العظيمة، الصين والولايات المتحدة”، صدرت عن مركز بلفر للعلوم والشؤون الدولية عام 2022م، تظهر حصة كل دولة من الناتج الإجمالي العالمي في معامل القوة الشرائية (وهو المؤشر الأهم للحكم على مستوى الاقتصاد). وفي هذا المؤشر تظهر حصة الصين الأعلى في العالم بنسبة 18.3% في مقابل نسبة استحواذ 15.8% للولايات المتحدة، الأمر الذي يعني ببساطة أن عبارة “الاقتصاد الصيني سوف يتفوق على نظيره الاميركي” باتت منتهية الصلاحية، فحَدَثُ التجاوز والتخطي الصينيَّين للولايات المتحدة، في ميدان الاقتصاد، أُنجز.
لا يكشف هذا المؤشر الفجوة الاقتصادية الناشئة بين الصين والولايات المتحدة فقط، بل إنه يُظهر أيضاً صورة مغايرة لوضعية الاقتصاد العالمي. فمساهمة الاقتصاد الروسي مثلاً أعلى من نظيره الفرنسي، ومجموع الاقتصادين الروسي والبرازيلي يساهم فيما هو أكثر من الاقتصاد الألماني.
في العودة إلى فجوات القوة بين الصين والولايات المتحدة، نلاحظ، من الخريطة أدناه أيضاً، أن الصين تمكّنت من فرض حضورها على مستوى التجارة، وهي الشريكة التجارية الأولى لـ 130 دولة. اللون الأحمر يمثل الدول التي تتبادل تجارياً مع الصين بصورة أكبر من تبادلها مع الولايات المتحدة، وهنالك تبدل في الخريطة بين عامي 2000 و2020، وإزاحة كبيرة وقوية لمصلحة التجارة العالمية مع الصين بدلاً من الولايات المتحدة.
تبدو القوة التجارية للصين جذّابة إلى حدّ لا تستطيع معه الدول المعادية لها إيقاف التبادل التجاري معها. فالهند مثلاً، التي تشتبك مع الصين حدودياً من وقت إلى آخر، والتي تفضّل الانضمام إلى أحلاف عسكرية معادية، مثل الكواد، تتبادل تجارياً مع الصين أكثر مما تتبادل مع الولايات المتحدة. تستورد الهند من الولايات المتحدة ما يقارب 40 مليار دولار، وتصدّر إليها ما قيمته 71 ملياراً، في حين تصدّر إلى الصين بقيمة 23 مليار دولار وتستورد منها ما قيمته 87 مليار دولار. يعني ذلك أن الهند تنظر اقتصادياً إلى الولايات المتحدة سوقَ تصريف لعدد من صادراتها، لكنها تعتمد على الصين في استيراد عدد كبير من احتياجاتها. لا تتباين نِسَب التبادل التجاري لليابان أيضاً، فهي تتبادل مع الولايات المتحدة 190 مليار دولار، في حين تتبادل مع الصين 304 مليارات دولار.
في الحالتين، الهندية واليابانية، تبدو السياسة واحدة: رغبة في الانحياز إلى الولايات المتحدة على المستوى الأمني، والانحياز إلى الصين على المستوى التجاري، ومشاركة واشنطن في أحلاف أمنية وعسكرية (الهند في الكواد)، واحتضان قواعد عسكرية أميركية، كما هي الحال في اليابان. تجدر الإشارة هنا إلى أن عديد القوات الأميركية في اليابان ارتفع من 49 ألف عنصر عام 2008م إلى 64 ألف عنصر قبل العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا بقليل. حتى أستراليا تخضع لصيغة مماثلة، فهي التي تشاكس الصين في جزر سليمان، وتنضم أيضاً إلى الكواد، وتعقد صفقة الغواصات النووية، وفي الوقت نفسه تتبادل تجارياً مع الصين 175 مليار دولار في مقابل 36 مليار دولار فقط مع الولايات المتحدة.
أستراليا والهند واليابان، ومعها أيضاً كوريا الجنوبية، تتشارك مع الصين في اتفاقية الشراكة الاقتصادية RCEP. وهذه الاتفاقية، ببساطة، تمثل 29% من سكان العالم، و32% من ناتجه الإجمالي، و28% من تجارته. إذاً، في الجهة الآسيوية من الكوكب، تبدو اصطفافات الأطراف الكبرى (الهند واليابان) واضحة” “نتشارك مع الصين في الاقتصاد، ونتجاوب مع الولايات المتحدة في الأمن. ندخل الأحلاف الأمنية مع واشنطن، ونوافق على الاتفاقيات والتكتلات الاقتصادية بقيادة الصين”. هي ببساطة وضعية جديدة في النظام الدولي، تتباين تماماً عن حقبة الحرب الباردة، التي تتحالف فيها الدول الأعضاء على كل شيء، وليس بـ”القطعة”. وفي عالم باتت الحروب أقل قدرة على الحسم من السابق، يمكن للاقتصاد أن يشكل عامل جذب أكبر من السلاح والحرب. لذلك، فإن المنافسة الحامية الآن في آسيا، بين واشنطن وبكين، هي: “من يستطيع اجتذاب اليابان والهند؟ الصين أم الولايات المتحدة؟ العسكرة أم الاقتصاد؟”. هو سؤال لن يحدّد فقط مصير الإمبراطوريتين الأكبر، وإنما أيضاً مصير النظام الدولي الجديد.
لم تعد الصين تشكل فقط قوة تجارية، وإنما قوة صناعية، ولم تعد فقط حاضنة للأعمال الصناعية، وإنما باتت أيضاً مركزاً للبحوث والتطوير. النظرة العامة، التي طاردت الصين طوال عقود، هي عجزها عن ابتكار الجديد أو المجيء بمزيد من براءات الاختراع (patents)، واتهامها دوماً بتنفيذ آليات هندسة عكسية بطريقة تنتهك الملكيات الفكرية. اليوم، بات هذا الحديث وراءنا تماماً، ومساهمة الصين في البحوث والتطوير للصناعات المتوسطة والكبيرة ارتفعت من 7% من مجمل الابتكارات العالمية إلى 26%، في حين تراجعت الابتكارات الأميركية من 25% إلى 22%.
في عام 2020م، كانت المرة الأولى التي يصدر تقرير global 500، الذي يعلن أكبر 500 شركة في العالم من ناحية العوائد، وتكون فيه 124 شركة صينية في مقابل 121 شركة أميركي
عندما تنبّأ نيكولاي كوندراتيف بانهيار الاتحاد السوفياتي، في كتابه “الموجة طويلة المدى”، قال إن العالم يمر كل 50ـ75 عاماً بتطور تكنولوجي كبير (طبعاً تنخفض هذه المدة اليوم مع التطور التكنولوجي المتسارع). والدولة، التي لا تستطيع التكيف مع التطور الجديد، وركوب الموجة الجديدة، تدخل في مرحلة الذبول والتراجع. يعتقد عدد من الباحثين أن الولايات المتحدة تعيش حالة مماثلة أمام التقدم الصيني، ومن ذلك تقدم الصين في مجال الطاقة النظيفة مثلاً
في الرسم أدناه، يمثل اللون الأحمر حصة الصين العالمية في سلسلة إمدادات الطاقة الخضراء، الأمر الذي يعني أن “مصنع العالم” سوف يكون الأقدر على إمداد نفسه بالطاقة في العقود المقبلة، وتزويد الآخرين بها، في ظل تراجع أميركي واضحة.
واحدة من الصِّيَغ غير العادلة، في النظام الاقتصادي العالمي، أن الدولار يمثل، من مجمل الفواتير العالمية، 4.7 أضعاف مساهمة الولايات المتحدة في الواردات، و3 أضعاف مساهمة الولايات المتحدة في الصادرات، الأمر الذي يعني أن هيمنة الدولار مالياً هي قرار سياسي. ومع ذلك، شهد العالم، منذ بداية الألفية، تراجعاً في الاعتماد على الدولار، كعملة احتياطية، من 70% إلى 60%، وتراجع اليوم في المبادلات التجارية بين الدول والهيئات إلى نسبة 38% فقط. تعرف واشنطن جيداً أنّ استغلال سيطرتها على نظام التبادل المالي في العالم، ومحاولتها تأبيد هيمنة الدولار (في حال قررت إخراج الصين منه)، يعنيان أن رفوف وول مارت ستكون فارغة في اليوم التالي.
ثمّة ميادين أخرى من المنافسة في جبهة المال والأعمال، ومنها مثلاً البنوك. لم تكن البنوك الصينية مُدرَجة في أي تصنيف لأكبر 10 بنوك عام 2000م، لكنّها تتبوّأ اليوم المراكز الأربعة الأولى في هذه اللوائح، كما أن نشاطها في سوق الأسهم ارتفع بنسبة 2500% منذ بداية الألفية.
الظروف المالية والتجارية تصبّ حتى الآن في مصلحة الصين على حساب الولايات المتحدة، فالصين هي الأوسع تجارياً، والأقوى صناعياً، وباتت منافساً قوياً لأوروبا والولايات المتحدة في ميادين البحث والتطوير وبراءات الاختراع. كما أنها دخلت على خط التمويل والبنوك وأسواق الأسهم. كل ذلك يضع واشنطن في منافسة مغايرة للمنافَسة السابقة في الحرب الباردة. إنها تنافس نموذجاً أيديولوجياً مغايراً، لكن في ميدان السوق التي صممتها هي بنفسها.
القوة العسكرية
لو أجرينا مقارنة ثنائية بين القوتين العسكريتين، الصين والولايات المتحدة، عبر استخدام الموقع المعروف Global Firepower، فسوف نخلص إلى النتائج التالية:
o تتميز الصين عن الولايات المتحدة في عامل القوة البشرية، والقوة العاملة في الجيش والاحتياطي.
o ميزانية الدفاع في الولايات المتحدة هي أكثر من 3 أضعاف ميزانية الدفاع في الصين.
o مجموع الطائرات المقاتلة وحاملات الطائرات والطائرات المروحية في الجيش الأميركي أكبر، الأمر الذي يعني تفوقاً في سلاح الجو لمصلحة الولايات المتحدة.
o القوة الأرضية، في معداتها وكادرها البشري، أقوى في الجانب الصيني.
o في البحر، تتميز الصين بالغواصات والسفن الحربية بفارق كبير عن الولايات المتحدة، لكن تتميز الولايات المتحدة بناقلات الطائرات وأنواع محددة من المدمرات.
لا يمكن اختصار المقارنة العسكرية بين الطرفين بالعنصر الكمّي من العتاد والكادر البشري، وإنما أيضاً بمنطق المواجهة العسكرية الذي يحكم عقلية كل طرف. ففي الوقت، الذي ما زالت الولايات المتحدة تعتمد على مبدأ الحسم الجوي، والمحافظة على عدد من نقاط الانطلاق والقواعد الجوية في محيط بحر الصين، وعلى تفوق نووي، تفكّر الصين وفق منطق مغاير. ومن ذلك:
أولاً، التراكم البطيء والمنتج في القوة العسكرية: لو أخذنا تايوان نموذجاً عن الاشتباك العسكري بين واشنطن وبكين، فسنعود إلى عام 1996م، عندما نفذت الصين تجربتها الصاروخية الأولى لردع تايوان عن الانفصال. تحركت حينها حاملات الطائرات الأميركية بالقرب من خليج تايوان، وأوقفت الصين تجاربها. اليوم، لو جرّبت الولايات المتحدة إعادة الخطوة، فإنها تعرف أنه يمكن إغراق هذه الحاملات عبر نظام DF-21 الصيني. راكمت الصين هذه القدرات العسكرية من خلال ضخّ مزيد من الميزانيات. ويجدر التذكير هنا بأن ميزانية الدفاع الصينية كانت 1 إلى 30 من ميزانية الدفاع الأميركية عام 1996م.
ثانياً، الزمن عنصر حاسم في المعارك: لم تكترث الصين لتطور القوة الجوية الأميركية، ولم تفكر في اللحاق بها بسرعة. هي، ببساطة، لم ترغب في تطوير الإمكانات الأقل أولوية في المعركة من باب اللحاق بطرف آخر، بل يمكن أن تكون هذه الخطوة عبئاً عليها. لذلك، ركّزت على جانب الدفاع والهجوم الصاروخي متوسط المدى وبعيد المدى، وهي تتفوق على الولايات المتحدة في هذا المجال. لو عدنا إلى مثال تايوان، فإن بكين يمكنها أن تنهي أي معركة في خليج تايوان قبل أن تتحرك واشنطن. يقول الأدميرال جيمس وينفيلد ومدير الـ CIAالسابق مايكل ميلر إنه لو حدثت حرب في تايوان، فإن الصين تستطيع أن تفرض الأمر الواقع قبل أن تفكر واشنطن كيف تستجيب. في الرسم أدناه تظهر المدة الزمنية اللازمة للولايات المتحدة كي تنخرط في أي نشاط عسكري في تايوان ضمن قواعدها العسكرية المتاحة في محيط بحر الصين والمحيط الهادي (2-3 أيام من أوكيناوا في اليابان، 3-5 أيام من جزيرة غوام، 10-16 يوماً من هاواي).
ثالثاً، الصين لا تدخل لعبة القلق النووي: إذا كان سباق التسلح واحداً من عناصر انهيار الاتحاد السوفياتي، فإن الصين لا تدخل لعبة القلق نفسها. إذا كانت الولايات المتحدة تدور في فلك 5000 رأس نووي، فإن الصين لا تفكر في تطوير ترسانتها إلى ما هو أبعد من مئات الرؤوس، وأحياناً 200 رأس، وليس أكثر. والسبب في ذلك أنها لا تريد أكثر من عتبة الردع النووي، على نحو يكفي لمنع الطرف الآخر من التفكير في الخيار النووي. وبذلك، تصبح العناصر الحاسمة في المعركة خارج المجال النووي.
رابعاً، إذا كانت الولايات المتحدة تعتمد، بصورة أساسية، على سلاح الجو والقواعد العسكرية، فهذا يعني أنها مضطرة إلى تخصيص ميزانيات أكبر (وهذا سبب أساس في تضخم الميزانية العسكرية الأميركية)، لكنّ الصين ترى في النموذج الصاروخي المتطور، مع نظام دفاع قوي، خياراً أقل تكلفة، ومكافئاً في الفعالية. وبالتالي، يمكن للولايات المتحدة أن تدخل في دوامة الإنهاك الاقتصادي بسبب العسكرة. ومن جهة أخرى، تجد الصين أن تدمير القواعد الأميركية المنتشرة أسهل من تدمير القواعد الصاروخية الكثيرة، والتي حمتها الصين عند حدودها.
خامساً، تشير دراسة من المركز نفسه (بلفر للعلوم والشؤون الدولية)، بعنوان “المنافسة العسكرية العظيمة”، إلى أن الصين تتقدّم في ميدان الأسلحة التكنولوجية الحديثة، وأسلحة الليزر، والذكاء الاصطناعي، والكوانتوم، وأسلحة الفضاء، الأمر الذي يعني أن الترسانة العسكرية الأميركية، التي تحدثت مجموعة من وسائل الإعلام الأميركية، في أكثر من مناسبة، عن ضرورة تحديثها، يمكن أن تدخل سباقاً جديداً، لا يُسعف معه كثيراً مخزون السلاح القديم.
لا تعني هذه الملاحظات أن الولايات المتحدة باتت قوة عسكرية متراجعة عن الصين اليوم. ولأن الواقع ليس ثابتاً، وإنما دائم الحركة، فما يهمنا دائماً هو اتجاهات الحركة. والدراسة المعمّقة لهذه الاتجاهات تنبئ بتراجع الإمبراطورية القديمة لمصلحة الإمبراطورية الصينية الجديدة.
سيرياهوم نيوز1-الميادين