السيد شبل
لا تتباين الحال في مصر عن الحال في أي دولة من دول العالم الثالث، اتجهت السلطات المعنية فيها نحو خيار الاقتراض من هيئات المال الدولية، وما يتبع ذلك من أجنداتٍ اقتصادية.
دخل المصريون العام الجديد 2023، وعيونهم مشدودة إلى قوائم أسعار السلع والخدمات التي تتغير (صعوداً لا هبوطاً) كل بضع ساعات، بحيث شهدت الأسواق المصرية تراجعاً حاداً في القيمة الشرائية للجنيه على مدى الشهور الماضية، فارتفعت أسعار بعض المواد الغذائية بنسبة 100%، في حين لم تزِد الأجور والرواتب التي يتلقاها أرباب الأسر لتتوازى مع هذا الارتفاع الصادم للأسعار. كما واصلت العملة المحلية انخفاضها أمام الدولار، بالتوازي مع استمرار القروض من مؤسسات المال الدولية، وإعلان بيع مزيد من الأصول التي تملكها الدولة.
تُلقي الحكومة المصرية اللوم على التجار وأصحاب المشاريع، متهمةً إياهم بالمبالغة في رفع الأسعار، واستغلال الأزمة التي تمر فيها البلاد بسبب تداعيات انتشار فيروس كوفيد 19، بالإضافة إلى تبعات الحرب الروسية الأوكرانية. في المقابل، ترى البرجوازية المصرية أنها بريئة من كلّ الاتهامات الموجَّهة إليها، وأنها بدورها ضحية للأوضاع الاقتصادية الصعبة في مصر بسبب صعوبة تأمين العملة الأجنبية المطلوبة للاستيراد، وارتفاع تكاليف الإنتاج، ناهيك بالشكاوى من زيادة الضرائب والتعقيدات التي يتسبب بها الروتين الحكومي. وفي السياق ذاته، يشير رجال الأعمال المصريون إلى أن الحكومة ذاتها رفعت الرسوم التي تتلقاها من المواطنين في مقابل الخدمات الاعتيادية، مثل استخراج شهادات الميلاد والوفاة ووثائق الزواج، أو الأوراق التي تتعلق بالقضايا في المحاكم. وبالتالي، فإن تراجع قيمة الجنيه هو حصيلة عامة للأوضاع في مصر، وليس نتاج جشع التجار والمنتجين.
لا تتباين الحال في مصر عن الحال في أي دولة من دول العالم الثالث، اتجهت السلطات المعنية فيها نحو خيار الاقتراض من هيئات المال الدولية، وما يتبع ذلك من أجنداتٍ اقتصادية، تدفع إلى تعويم العملة، على نحو يعني امتناع الدولة عن التدخل من أجل دعم العملة الوطنية في مواجهة العملات الأخرى، كما تطالب برفع الدعم عن السلع والخدمات المقدَّمة إلى المواطنين، باعتبار أن هذا الأمر كفيل بتوفير المال للدولة، ومعالجة العجز القائم في الموازنة. وفي الدول، التي لا تملك ثروات طبيعية تدرّ عليها الدولارات من الخارج عند تصديرها، وتصنع اتزاناً في الميزان التجاري، تكون الحصيلة النهائية لهذا المسار انخفاضَ سعر صرف العملة المحلية وتراكم الديون وارتفاع الأسعار.
تراجع الجنيه في الأسبوع الأول من العام الجديد
مع دخول الأسبوع الأول من شهر كانون الثاني/يناير 2023، كان المصريون على موعد متجدّد مع قرارات بنكية جديدة، أفضت إلى تراجع الجنيه المصري إلى أكثر من 26 جنيهاً للدولار. وبهذا، يسجل الجنيه أكبر حركة يومية منذ سمح البنك المركزي له بالانخفاض بنسبة 14.5 في المئة في 27 تشرين الأول/أكتوبر من العام الماضي.
كانت مرونة سعر الصرف مطلباً رئيساً لصندوق النقد الدولي بعد أن وافق على حزمة “إنقاذ مالي لمصر” مدتها 46 شهراً بقيمة ثلاثة مليارات دولار، وحصلت مصر على 347 مليون دولار كشريحة أولى. وتسعى الحكومة المصرية للحصول على القرض منذ آذار/مارس 2022، بعد أن أدت التداعيات الاقتصادية للحرب في أوكرانيا إلى تفاقم نقص النقد الأجنبي، الأمر الذي تسبّب بتباطؤ في الواردات وتراكم البضائع في الموانئ.
وحتى الأيام الأخيرة من العام الماضي، كان يجري تداول العملة المصرية عند 24.70 جنيهاً في مقابل الدولار، بينما كان يباع الدولار في السوق السوداء الموازية بسعر يقترب من 30 جنيهاً أو يتخطى ذلك.
دوماً يشعر المصريون بالاطمئنان عندما تستقر العملة المحلية، بينما يشعرون بالهلع عندما تنهار. ويمكن تفسير ذلك باعتماد مصر على الاستيراد من الخارج بدرجة كبيرة، الأمر الذي يدل على أن ارتفاع سعر الدولار يؤدي فوراً إلى مزيد من التضخم.
وكان الدولار، حتى نهاية حقبة الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، يساوي 40 قرشاً (أي أقل من نصف جنيه)، ثم استمر في الصعود خلال فترتي الرئيسين السادات ومبارك حتى وصل إلى نحو 6 جنيهات عند اندلاع أحداث “الربيع العربي”. ومع تولي الرئيس عبد الفتاح السيسي الحكم في مصر، كان الدولار يساوي 7 جنيهات وربع جنيه تقريباً، ثم أخذ في الصعود التدريجي ليكسر حاجز 26 جنيهاً مع دخول عام 2023.
وكان الرئيس المصري تحدّث، منذ نحو ثلاثة أشهر، عن الارتفاع المستمر للدولار أمام الجنيه، قائلاً إن “حساب قدرة الاقتصاد، وفقاً لسعر الدولار، هو فكرة غير دقيقة وغير صائبة”، موضحا “أن سعر الدولار مرتفع نتيجة ارتفاع سعر الفائدة في البنك الفيدرالي المركزي الأميركي بصورة متكررة وحادة، وأن هذه العوامل قتلت العملات الأخرى أمام ضغط الدولار. والجنيه المصري ليس أكثر قوة من العملات الأخرى”.
شهادات بعوائد مرتفعة لمواجهة التضخم
في خطوة من القطاع المصرفي لمواجهة التضخم، أعلن بنكا الأهلي ومصر، وهما أكبر بنكين في البلاد، طرح شهادة ادّخار جديدة بعائد 25 في المئة سنوياً، على أن يتم صرف العائد شهرياً، في خطوة تتماشى مع قرارات البنك المركزي القاضية بخفض قيمة العملة.
وسبق للبنكين ذاتيهما أن أصدرا شهادات بعائد 20 في المئة بعد تعويم الجنيه المصري في عام 2016، من أجل تحسين جاذبية الجنيه المصري والحد من الهرولة المستمرة نحو الدولار.
وفي الشهر الماضي، رفع البنك المركزي أسعار الفائدة بمقدار 300 نقطة، دفعةً واحدة، في خطوة مفاجئة، من أجل كبح التضخم، الذي وصل إلى أعلى مستوياته في نحو 5 أعوام.
ويعني التضخم الارتفاع في المستوى العام للأسعار، فهذا الارتفاع يقابله بالضرورة انخفاض في القوة الشرائية. وبالتالي، فإن عملية ادّخار العملة مع وجود ضغوط تضخمية هو خفض لقيمتها، بحيث يصيبها نوع من التأكّل والتراجع. وبالتالي، يتجه المواطنون إلى تحويل مدّخراتهم إمّا إلى ذهب، وإمّا إلى دولار، من أجل حفظ قيمتها مع مرور الوقت.
ويشكّك اقتصاديون في إقبال المصريين على شراء الشهادات الجديدة. فعلى الرغم من الارتفاع الكبير في العائد، بحيث ستزيد الأموال المُودَعة ربع قيمتها بعد مرور عام، وذلك إذا لم يتم صرف العائد شهرياً، فإن الانخفاض المستمر للقيمة الشرائية للجنيه يُرعب المدخرين، وربما يدفعهم إلى شراء عقارات بمدخراتهم، من أجل حفظ قيمة أموالهم وتحقيق عائد شهري من الإيجار، وإن كان أقل من العائد الذي ستحققه شهادة الإيداع.
فقيمة معظم الشقق السكنية في المدن الجديدة ارتفعت 50% خلال العامين المنصرمين، الأمر الذي يعني أكثر من نسبة 25% التي تضمنها الشهادة. لكن، في المقابل، يرى آخرون أن البنكين المصريين يراهنان على المُودعين السابقين الذين لديهم بالفعل شهادات سنوية بعائد 18%، وهؤلاء هم الفئة المستهدَفة، والتي ستتجه نحو تجديد شهادتها السابقة وفق العائد المرتفع الجديد.
هل يواصل القطاع الخاص المصري انكماشه؟
من المرجَّح أن يواصل نشاط القطاع الخاص في مصر انكماشه، خلال الشهر الجاري، قياساً بالشهرين الفائتين، وذلك تحت ضغط ضعف العملة المحلية، واستمرار القيود على الواردات، وتراجع القوة الشرائية للمواطنين.
وكان مؤشر ستاندرد آند بورز غلوبال لمديري المشتريات في مصر ارتفع إلى 47.2 في كانون الأول/ديسمبر، لكنه ظل دون مستوى 50 الفاصل بين النمو والانكماش، وذلك للشهر الخامس والعشرين على التوالي.
وتعاني مصر نقصاً حادّاً في العملة الأجنبية على الرغم من الخفض المستمر في قيمة الجنيه. ويؤدي نقص الدولار إلى تقييد واردات مدخلات المصانع وتجارة التجزئة، الأمر الذي يؤثّر سلباً في نشاط القطاع الخاص، بصورة عامة.
ويؤكد اقتصاديون أن معدلات إنفاق المصريين مرشحة للتراجع خلال عام 2023 في ظل الارتفاع المستمر للأسعار، وأنه، حتى اللحظة، ربما تستطيع الطبقة الوسطى التحايل على التضخم وتوفيق أوضاعها، إلّا أن أي زيادة مجدّداً في الأسعار ستدفع قطاعات معتبرة من المواطنين إلى العزوف عن شراء منتوجات كانت اعتادت الحصول عليها، وأن هذا الأمر من الطبيعي أن يؤثّر سلباً في عدد من القطاعات التجارية والصناعية والخدمية داخل مصر.
وعلى الرغم من التشكيك في إمكان اتجاه الأسواق المصرية نحو الشلل التام، بسبب اعتماد عدد من الأُسر المصرية على تحويلات تأتي إلى أفرادها ممن يُعيلونهم ويعملون في الخارج ويتقاضون رواتبهم بعملات أجنبية، فإن الآثار السلبية لارتفاع الأسعار لا بد من أن تظهر في السوق المصرية. وبدأت بوادر الأمر بالفعل في سوق السيارات، على سبيل المثال، بحيث شهدت حركة البيع ركوداً مقارنة بفترات سابقة، والسبب يعود إلى الارتفاع الضخم في أسعار السيارات الحديثة، والتي لا تصنعها مصر بطبيعة الحال، وإنما تستوردها بالعملة الصعبة.
وبعيداً عن تراجع معدلات الإنفاق ومشكلات توفير العملة الأجنبية، فإن تشدّد الحكومة في عدد من إجراءات التراخيص والمتابعة الضريبية، ربما تدفع بعض صغار المستثمرين إلى تجميد أنشطتهم أو الحدّ منها. لذا، تنامت المطالبات مؤخراً بحياكة برامج لتشجيع الاستثمار توازن بين حق الدولة ومصالح المستثمر، وخصوصاً في هذه المرحلة الصعبة التي تمر فيها البلاد.
سيرياهوم نيوز1-الميادين