خالد يجلس أمام ماكينة الخياطة، وخلف واجهة المحل الزجاجية، مستأنساً بحركة المارة الكثيفة، يساعده مشهد الشارع الحيوي على الاستمرار، والصمود.
لم يكن ينقص حرفة الخياطة اليدوية إلّا الأزمة الراهنة التي يمرّ بها لبنان، ومن ضمنها “كورونا” التي ضربت الحياة العامة، لكي تصاب بالمزيد من التراجع.
لكنّ الخيّاط الطرابلسي المخضرم خالد الحفّار، الذي دخل منتصف عقده السابع رافعاً راية المهنة، يتمسّك بها، ويقاوم معها احتمال التوقّف، دافعه رقيّ صناعتها، وتذوّقه لممارستها، وقناعته أن كثيرين لا يزالون يفضلونها على الألبسة الجاهزة.
أصيبت المهنة بتراجع كبير في سنوات الأزمة اللبنانية، فتراجع العمل عند خالد الذي يقف أحياناً كثيرة على مدخل محترفه يتلقى بعض نور شمس مُتَسَرِّبٍ من بين الغيوم الخريفيّة، ينتظر زبوناً أو زبونة يحمل أحدهم همَّ تصليح ثوب، أو طاقم.
أما التوصية على طقم جديد، متكامل، فقد تراجعت كثيراً منذ ما قبل الأزمة الأخيرة حيث اقتصر عمل المعلم خالد على طقم شهرياً، في أحسن الأحوال.
حرفة قديمة… بابتسامة عريضة
تأسّس المشغل سنة 1937 في شارع التل، أحد أشهر وأثرى شوارع لبنان التجارية، على يد الوالد منيف، ولا يزال قائماً في موقع تأسيسه الأول، على الرصيف العام، بحجم صغير يزيد قليلاً عن الـ 10 امتار مربعة، وله مُتَخَّت أتاح عبر مسيرته استيعاب ورشة عمل كبيرة من مهنيي، وحرفيي الخياطة يوم كان الإقبال عليها كبيراً، وافدةً بأزيائها الاوروبية مع الحداثة.
واقفاً على باب محترفه، يطلّ خالد الذي بات يناهز الثمانين، بابتسامته العريضة، والهدوء المعتاد الذي عاشه على وقع إبرته، يعبر بها قُطْبَةً قُطْبَة، مساحات القماش المترامية بالنسبة لحجمها.
يبادر بالترحيب، والرد الجاهز على سؤال عن العمل، “مين بقي بهالبلاد”، في لفتة لشحّ الزبائن، وتراجع الطلب كثيراً، مستدركاً عبر ـ”الميادين نت” بعبارة”لكن الحمدلله، يبقى لدينا ما نشتغله من توصيات، وتصليحات، ونستمر بالموجود”.
التحق خالد بمحترف والده بعد أحداث سنة 1958 التي “أشّرت إلى ضرورة اعتماد حرفة تحمي الانسان من عاديات الزمن، وتؤمّن معيشته، وتحفظ كرامته”، بحسب خالد، ناقلاً توصية والده إن “الخياطة مهنة الشرف، والذوق الرفيع وهي تحمي من العَوَز”.
شؤون مهنة “الصبر”
آثر منيف أن يتعلّم ابنه خالد حرفته، ليساعده أولاً، وليؤمّن مستقبله ثانياً، ويفيد الحفار إن “الوالد كان يفضّل أن يكون بجانبه أبناء العائلة لمساعدته، مبتعداً عن الغرباء، فهذا ما تتطلّبه مهنة الخياطة”، بحسب خالد، مضيفاً إنه “تعلّم المهنة مع اثنين من أشقائه، تلبية لرغبة الوالد، لكن شقيقيه هاجرا إلى الولايات المتحدة، وعملا فيها بالخياطة، في مدينة لوس أنجلوس الأميركية.
اعتاد خالد على الجلوس أمام ماكينة الخياطة، وخلف واجهة المحل الزجاجية، مستأنساً بحركة المارة الكثيفة، يساعده مشهد الشارع الحيوي على الاستمرار، والصمود، ومتابعة شؤون مهنة “الصبر”، فقد قال إنّه “يعتمد العمل اليدوي في خياطة الثوب أو الطاقم، ونادراً مايلجأ لماكينة الخياطة لدرز جزء صغير مخفيٍّ من الثوب”.
مهارة يدوية
بين قطبة وثانية، لا بدّ لخالد من نظرة على المارّة حيث يعرفه كثيرون، فيتلقى تحية، ويرد بابتسامة، ويستمر على هذا المنوال طيلة النهار، وينجز الطاقم بحدود الـ 20 يوم.
يروي خالد حكاية عشقه للخياطة، ويقول إنها “ذوق رفيع، ومتعة عمل، وليس كل من خاط ثوباً، مارس فنّاً ومتعة، وعندما أمسك الإبرة الباردة، أشعر بها دافئة، وعندما أدخل الخيط بها، أحس بإنجاز عظيم، وعندما أبدأ بتفصيل الثوب، أعيش لذة التنظيم، والتدقيق، والقصّ، قبل البدء بتوصيل القطع واحدة تلو الأخرى بالخيط والإبرة”.
يتحدث خالد عن حبّ كثيرين للأثواب التي تُخاط بمهارة يدوية، وقد اشتهر الوالد بقدرة جَذْب الزبائن لدبلوماسيته، فذاع صيته، وقصده كبار السياسيين، وقادة الرأي في المدينة، وقال إن “كلّ موظفي شركة نفط العراق (منشآت نفط طرابلس)، بما فيهم البريطانيون، كانوا زبائن محلنا، ومن قادة المدينة ووجوهها الشهيرة عبد الحميد كرامي، وراشد المقدم، وغيرهم، كما قصد محلنا قائد الجيوش الفرنسية في الأربعينات الجنرال ديغول طالباً ثوباً، وذلك قبل الجلاء بقليل”.
ويذكر خالد أن “محل والده كان يعجّ بالعمال، فـ “على التتخيتة لوحدها، كان أكثر من 15 عاملاً وفنياً يساعدون الوالد، رغم أن مساحة الصالة السفلية تتعدى العشرة أمتار مربعة بقليل، وكان العمل يستمر فيها ليلاً نهاراً دون توقّف، وينقسم الفنيون والعاملون إلى طاقمين، واحد ليلي، وآخر نهاري”.
أواسط السبعينات، بلغت المهنة أوجها، فكانت تدرّ الكثير من المداخيل، لكنها مثل كل المهن والأعمال في لبنان، بحسب خالد، “بدأت تتعرّض لمنافسة صناعة الآلات الحديثة السريعة، ويمكن القول إنها بدأت تدخل في أزمتها، فبدأ تراجع كثير من الزبائن عن الاعتماد على الخياطة”.
يقول خالد إنّه “لم يبق إلا القلة القليلة من الزبائن، وبتنا لا نخيط إلا بحدود عشر قطع سنوياً، فالناس بدأوا يكتفون في تلك الآونة على أطقم جاهزة من السوق بـ 50 دولاراً، أو 150 دولاراً، بينما كانت تصل أجرة الطقم عندي لـ 350 دولارا قبل الأزمة الحالية، يضاف إليها ثمن القماشة التي نعتبرها نصف الثمن، أي ما يقارب الـ 700 دولار”.
تطورات أجرة الثوب
تطورت تكاليف خياطة الأطقم والثياب على اليد، ومثل كل السلع، بدأت أجرة الثوب بالازدياد مع ارتفاع الغلاء بالتدريج، وبعد أن كانت أجرة الطاقم 100 ليرة في السبعينات، وهو مبلغ مرموق يعادل ثلث راتبٍ لموظف عادي، أي أقل من300 ليرة شهرياً، أصبحت أجرة الطاقم بـ 150 ليرة ، وازداد مع ضعف الليرة بصورة متواترة، ولم يكن للدولار حضور في ذلك الحين”.
أنواع القماش لم تتغيّر بصورة عامة، فهي إما من الجوخ الخشن شتاء للتدفئة، أو من الصوف الناعم لمن لا يحتمل خشونة الجوخ، وصيفا الكتان سيّد الأقمشة، وكثيرون من الزبائن الذين يفضلون الأناقة على الراحة، يختارون القماش المتضمِّن خيوط نايلون لأن النايلون يحافظ على شكل الطاقم بعد الكيّ.
ينهي خالد كلامه بتعهّده الاستمرار في المهنة التي يعشق، “مهما تراجع الإقبال، وقل العمل، وسأظل حارسها الأمين ما حييت”.
سيرياهوم نيوز1-الميادين