|
يحتفي الجزائريون بعيد “يناير” أو “النّاير” أو “باب العام” الأمازيغي الجديد يوم الثاني عشر من شهر كانون الثاني/يناير من كلّ عام.
تتنوّع المظاهر ومدّة الاحتفال بحسب كل منطقة. وبين الأسطورة والحقيقة، تُنسج روايات عن طقوس توارثتها الأجيال منذ زمن سحيق في إحياء “الناير”، هذا التقويم الزمني الممتد 950 سنة قبل الميلاد، موحّداً حوله أمازيغ شمال أفريقيا، من المغرب الأقصى إلى واحة سيوة المصرية.
أعلنت السلطة الجزائرية المناسبة إجازة وطنية رسمية مدفوعة الأجر منذ العام 2018. لكنّ ذلك لم يقطع بصفة نهائية السجال المتجدّد، الذي يثيره البعض حول قضايا الهويّة وموقف الدين من هذا الاحتفال وما يصاحبه من عادات.
“النّاير” في المخيلة الشعبية
مثل أي تقليد ضارب في التاريخ، “يمزج “النّاير” بين الخيال والمنطق، فيرتبط تارة بتقويم فلاحي اعتمدته شعوب ارتبطت بالأرض حدّ التقديس، وتارة بعجوز تحدّت الطبيعة فجعلتها مسخاً، وتارة أخرى بملك أمازيغي تولّى عرش مصر القديمة”، حسبما يوضحه لـ “الميادين نت” د. أحمد قريق أحسين الباحث في علم الفلك والدراسات الإسلامية والتاريخية.
يميل المنطق وفق الباحث إلى الرواية الأولى، ويعتبر “النّاير من أقدم التقاويم في شمال أفريقيا، حيث يدخل عامه 2973، ويرجع ظهوره للملكة النوميدية، التي شملت في أقصى توسّعاتها أجزاءً مما يسمّى حالياً ليبيا، تونس، الجزائر والمغرب”.
ويضيف أحسين: “يبدأ هذا التقويم في 12 كانون الثاني/يناير من السنة الغريغورية، وهي بداية الانقلاب الشتوي، حيث تصبح الأرض مهيّأة للزراعة”.
أسطورة “النّاير” والمرأة العجوز ترويها لـ “الميادين نت” الحكواتية سهام عرفة كنوش: “يحكى أن عجوزاً (تامغارت بالأمازيغية) فرحت بغروب شمس يوم الثلاثين من كانون الثاني/يناير، وذوبان جليده مع إشراقة أول فورار (شهر شباط/فبراير بالأمازيغية)، وضحكت وقالت مستهزئة: ارتحنا منك يا “النّاير” ونَفدنا أنا ومعزاتي..”.
غضب “النّاير” غضباً شديداً وذهب إلى شهر فورار طالباً أن يقرضه ليلة ونهاراً، ليُخرس العجوز فم العار، ويغرس قرون قطيعها في النار، فمنحه فبراير ستّة أيام بلياليها، اسودّت فيها السماء، واشتدّ البرق والرّعد، وتهاطل البَرَد والثلج من دون انقطاع، وكسرت الريح كلّ الأشجار.. فتجمّدت المرأة العجوز مع ماعزها وتحوّلوا إلى تمثال حجري.
ونتيجة لذلك يسمّى اليوم الحادي والثلاثين من كانون الثاني/يناير بـ “اليوم المقترض” (أُومْرْدِيل بالأمازيغية)، وكان يحتفل به في الماضي قبل أن يتلاشى هذا التقليد، بينما يمثّل الثاني عشر من الشهر البداية الفعلية لـ “النّاير” عند إنقاص الأيام الستة المقترضة من شباط/فبراير، بحسب أسطورة تحكيها الجدّات في ليالي الشتاء الطويلة الباردة ببلاد القبائل”.
أما الرواية الثالثة، وهي محلّ تشكيك من طرف بعض الباحثين، فتستند في الأصل إلى قصّة اعتلاء الملك “شيشناق الأول” عرش مصر القديمة بعد انتصاره على “رمسيس الثاني”، عام 950 قبل الميلاد.
في تصريح لـ“الميادين نت” تكشف الباحثة في التراث القديم د. نصيرة ساحري أن “الحدث الذي تمّ اعتماده السنة صفر في التقويم الأمازيغي، جاء من طرف الجمعية الأكاديمية الأمازيغية، خلال اجتماعها بباريس عام 1968”.
وأضافت: “اختيار هذا الحدث بالذات بدلاً من وصول الملك ماسينيسا بن غايا إلى الحكم عام 202 قبل الميلاد، وتوحيده لمملكة نوميديا العظمى تحت راية العاصمة سيرتا، كان الهدف منه اعتماد تأريخ يربط جميع أمازيغ شمال أفريقيا بحدث عظيم جدّاً، يحتفي به كلّ فرد على طريقته الخاصّة”.
“الفْتوح” لبدء العام عند أمازيغ “الشّلوح”
يتميّز “الشّلوح” وهم أمازيغ ينتشرون حول الأطلس البليدي والغرب والجنوب الغربي للجزائر، وهم موجودون أيضاً بشكل مكثّف في المغرب الأقصى، بعادة “الفْتوح”، وهي وفق الكاتب والباحث في التراث الأمازيغي أحمد خداوي “تقليد قديم، يعتكف فيه الرجال والشيوخ في الجامع بين صلاتي المغرب والعشاء، من أجل الدعاء بعام جديد فيه يغاث الناس، ويرزقون الخير الوفير والمطر الغزير، بينما تحضّر لهنّ السّيدات في البيوت طبق الكسكسي بالزبيب ومرق البقول الجافة، أو “البركوكس” أو “العِيشْ” بمرق الدجاج، وهو نوع من العجائن مفتول على طريقة الكسكسي لكنّ حبّاته أغلظ منه، طمعاً في البركة”.
يوضّح المتحدث لـ “الميادين نت” أن “الفتوح الذي يستمدّ اسمه من فاتحة الكتاب هو كناية عن افتتاح العام الزراعي، ينظّم مرّتين في السنة، الأولى ليلة منتصف شهر تشرين الأول/أكتوبر وهي بداية موسم الحرث، والثانية ليلة الـ 12 من كانون الثاني/يناير، وهي بداية موسم الزّرع بحسب التقويم الأمازيغي القديم”.
“أشويق”.. “النّاير” بألحان “القبائليات”
في تيزي وزو شرق العاصمة، حيث تدوم الاحتفالات الرسمية أسبوعاً كاملاً، يبدأ العام الجديد على ألحان “أشويق”، وهو نوع من شعر الزّجل الحرّ، تؤدّيه النسوة القبائليات، أثناء القيام بأشغال المنزل، والعمل في الحقول وجني الزيتون، وعند ازدياد المواليد، وفي الأعياد والأعراس وحفلات الختان، وحتى الجنائز، حيث تتكيّف كلماته بحسب طبيعة المناسبة، فيتفرّع إلى ذِكرٍ وغَزَل.
بحسب د. ذهبية آيت قاصي أستاذة الآداب الشعبية في جامعة تيزي وزو يعدّ أداء “أشويق” في “باب العام” بمثابة “مناجاة استسقاء واستجداء لنزول الغيث”.
يبدأ عرض الأشويق باكراً.. تتجّمع النساء المسنّات في أعلى نقطة من القرية، يرتدين أجمل الثياب ويتزيّن بحلي من الفضّة، ووسطهن فتاة عزباء يغطّي وجهها “آمنديل” (خمار أمازيغي)، تحمل “قفّة” كبيرة فيها حلوى ومكسّرات وتين مجفّف.
ينطلق الموكب النسوي صادحاً بالذِّكر طالباً جود السماء بالمطر، و”النّاير” بالخير والرزق الوفير.
تطوف فرقة “الأشويق” على كل بيوت القرية طارقة أبوابها، وتتبادل مع أصحابها حفنة مما تحمله قفّة الفتاة، مقابل حفنة “كسكسو” (الكسكسي)، أو بقول جافة، أو قطع لحم مقدّد، أو بعض السمن البلدي أو زيت الزيتون.
بعد انتهاء الطّواف تبدأ النسوة مهمّة جديدة، زرع قليل من بذور القمح والشعير والفول تفاؤلاً بموسم مثمر، وبعدها يقمن بتحضير “إِيمَانْسْيّْنْ النّاير” أو “عشاء النّاير”، بما تمّ جمعه في القفّة من مواد.
عشاء النّاير
يتكوّن “عشاء النّاير” من طبق الكسكسي، المرفق بمرق الدجاج، وسبعة أنواع من البقول الجافة. وإلى جانبه، تعدّ أنواع من الحلوى والمعجنات، مثل الفطائر، و”السّفنج” بالزبيب (فطائر إسفنجية)، و”مقروظ التمر”، وعصيدة السميد بالعسل، إضافة إلى التين المجفّف المغمّس في زيت الزيتون وغيرها.
تقول الناشطة فتيحة ياحا لـ“الميادين نت“: “لا أعلم منذ متى بدأت هذه العادة، لكن نحن نتمسّك بها، ونتوارثها عن أمهاتنا وجدّاتنا الأمازيغيات، أملاً في عام جديد يحمل لنا الخير والهناء..”.
وتضيف: “لذلك، لا نعدّ في “النّاير” إلا الوصفات الطيبة والمحلّاة بالسكر أو العسل، ونمتنع عن طبخ المنتجات الحارّة واللاذعة والمُرّة، لأنها نذير شؤم لبقية العام.. ربّما يحمل معه الجفاف واحتراق المحاصيل، والبؤس وقلّة البَركة”.
تشكيك في أصل التقويم
يقول الأستاذ الجامعي والباحث في التاريخ د. العربي دحّو إن “طرح انتصار شيشناق على رمسيس الثاني واعتلائه عرش مصر، واعتماد الأمازيغ ذلك للاحتفاء بـ “اليناير” في الـ 12 منه، هو ضرب من التسويق السياسي، والتلفيق التاريخي، والتضليل المفضوح، والأبعد من ذلك من هو شيشناق أهو أمازيغي حقاً؟”.
ويجيب: “الفرضية الأرجح قطعاً حتى الآن، أنه احتفال نوميدي متّصل بالطبيعة وتحديداً بالجانب الفلاحي”.
ويعتبر د. العربي دحّو أن “ما انتهت إليه الدولة من عد يناير عطلة وطنية هو تأصيل لسلوك وثقافة وفكر وطني عريق من دون شك.. وهو تحصيل حاصل أن يتفاعل معه الشعب الجزائري من أقصاه إلى أقصاه لأنه نابع من كينونة عريقة الوجود”.
وزارة الشؤون الدينية تردّ على “المُحرِّمين”
تشارك وزارة الشؤون الدينية في الاحتفالات الرسمية بـ “النّاير”، ويعدّ ذلك ردّاً على من يحرّمون إحياء المناسبة. يقول الإمام المعتمد أحمد عاشور في حديث لـ”الميادين نت” إن “من يحرّمون الاحتفال بـ “النّاير”، هم أنفسهم من يحرمون الاحتفال بالمولد النبوي الشريف ويوم عاشوراء”.
ويضيف: “النّاير موروث حضاري من تراثنا القديم، وجزء لا يمكن فصله عن الهوية الوطنية الجزائرية، المتكاملة بعناصرها العربية والأمازيغية. والاحتفال به مباح وجائز، لأنه يعزز الوحدة والانتماء للوطن، ومن يعتز بدينه يعتز بوطنه وبثقافته، وفوق ذلك كلّه فإن الاختلاف هو سنّة الله في خلقه ورحمة بعباده”.
إرث مغاربي مشترك
يرى الروائي والأستاذ في كلية الثقافة واللغة الأمازيغية د. حسين حلوان في حديث مع “الميادين نت” أن “إضفاء الطابع الرسمي على الأمازيغية، واحتفالات النّاير، تتويج لمعركة مشروعة طويلة جداً، لكنها ليست نهاية الرحلة قطعاً.. يتوجّب علينا الآن العمل على تصنيف هذا الإرث تراثاً مغاربياً مشتركاً، على غرار تصنيف طبق الكسكسي، لأن ذلك يعيد ربط حبال الوصل بين شعوب المنطقة”، وهو ما يؤيّده أيضاً الكاتب والمؤرّخ والمستشار في المحافظة السامية للأمازيغية د. جمال لاصب، في تصريح لـ”الميادين“.
واعتبر أن “النّاير قاعدة مجتمعية وثقافية مشتركة لكل شعوب شمال أفريقيا، تُذكّرنا أننا شعب واحد من المحيط الأطلسي غرباً إلى البحر الأحمر شرقاً، ومن البحر الأبيض المتوسّط شمالاً إلى الصحراء الكبرى ومالي والساحل جنوباً.. ربّما تختلف لهجاتنا وألوان بشرتنا، ولكننا بشر متشابهون، نتشارك ثقافة حافظت على وجودها منذ زمن غابر، ونجت من الاندثار بفضل أسلافنا، الذين جعلوا أسطورة النّاير حقيقة تنير دربنا”.
سيرياهوم نيوز3 – الميادين