| عبد المنعم علي عيسى
كثيرة هي الموجبات التي دعت بحزب «العدالة والتنمية» الحاكم في تركيا لمناقشة فكرة تقريب موعد الانتخابات المقرر في 18 حزيران المقبل، فيما الموعد المقترح هو 14 أيار، والتاريخ هنا ذو رمزية لا شك في أنها باتت من بين تلك «المواد الخام» التي تجهد غرف تركيب الأدوية في الحزب في التلاعب بنسبها من جهة، ثم تجريبها مع مواد أخرى للخروج من المأزق الذي أثبت عقم العقاقير القديمة في معالجة «الهزال» الذي بدا عليه جسده في الآونة الأخيرة، فهو، أي ذلك التاريخ الأخير، يستحضر هزيمة حزب «الشعب الجمهوري»، في مثل هذا اليوم، أمام «الحزب الديمقراطي» بزعامة عدنان مندريس الذي وإن لم يكن إسلامياً لكنه خاض انتخاباته السابقة الذكر تحت عنوان عريض هو إلغاء «الإجراءات العلمانية الصارمة» التي فرضها كل من مصطفى كمال أتاتورك وخلفه عصمت إينونو ما بين عامي 1923 و1950، في محاولة ترمز لإنهاء «السطوة السياسية» التي كان يتمتع بها اسم أتاتورك «أبو الأتراك»، وتهدف أيضاً إلى التخفيف من وهجه الآخذ بالترسخ آنذاك في الذات الجماعية لهؤلاء.
اجتمعت اللجنة المركزية لحزب «العدالة والتنمية» يوم الإثنين 16 كانون الثاني الجاري لمناقشة دواعي تقريب الانتخابات التي كان منها أن شهر حزيران سيكون شهر عطلة وفيه ستجري أغلبية الامتحانات الدراسية عدا عن أنه سيكون شهر الحج، وبغض النظر عن كل تلك المعطيات الصحيحة والتي يمكن أن يكون لها تأثير لا يستهان به في النتائج التي ستفضي إليها الانتخابات بل وفي نسبة الإقبال عليها ما يفضي إلى أسباب مجهولة النتائج، إلا أن ثمة بعداً آخر سياسياً هو الذي لعب دور الترجيح في القرار الذي اتخذ في ذلك الاجتماع باعتماد موعد 14 أيار يوما مقترحا لإجراء الانتخابات والذي أعلنه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بعد مضي 48 ساعة على اجتماع اللجنة المركزية لحزبه الحاكم.
البعد السياسي الذي نقصده، وربما الأصح أنه مجموعة من العوامل التي يمكن حزمها في رزمة واحدة، يتمثل في تشرذم المعارضة التركية التي انضوت قبل نحو عام في إطار أطلق عليه اسم «طاولة الستة» التي لا يجمعها أصلاً سوى هدف إسقاط حكم أردوغان وحكم حزبه، فيما عدا ذلك فإن التناقضات، التي تطول الآليات للوصول إلى ذلك الهدف وكذا تطول الحصص الناجمة عن ذلك السقوط المفترض، تمثل اللون السائد في لوحة الحراك السياسي الذي تختطه ريشة أحزابها جنباً إلى جنب الألوان التي يختارها «الرسامون» القادة، الأمر الذي يمكن لحظه في العديد من المواقف التي أعلنها هؤلاء تجاه التوافق على الاسم الذي ستختاره المعارضة لمنازلة أردوغان، ففي أقرب إعلان في هذا السياق قالت المعارضة إنها ستختار اسم مرشحها شهر شباط المقبل لكن من دون الإعلان عنه بدعوى عدم استغلاله من قبل الحزب الحاكم، لكن للفعل محاذيره التي لا تعد، ناهيك عن أنه يكشف عن وهن ذاتي يعتري غرف صناعة القرار في «الطاولة» وهو يعبر عن مكنونات ترى أن «الخصم» قادر على تهشيم أي اسم في ما تبقى من الوقت، أسوة بما جرى مع رئيس بلدية اسطنبول أكرم إمام أوغلو الذي بات رقمه بالتأكيد «خارج الخدمة» ومن الصعب المجازفة به على الرغم من أن قراراً قضائياً نهائياً لم يصدر بحقه، لكنه قد يصدر في أي وقت طالما أن «الخصم» يمسك بمفتاح القضاء الذي بات رهينته منذ مطلع العام 2018، أما كمال كيتشلدار أوغلو، زعيم حزب «الشعب الجمهوري» وصاحب الثقل البرلماني المعارض الأكبر، فمن المؤكد أنه من المستحيل عليه هزيمة أردوغان لاعتبارات عدة لعل أبرزها أن ديناميكية السلطة في تركيا لا تزال تأخذ بعين الاعتبار عوامل عدة من النوع الذي يمكن أن يسمى «المسكوت عنه» في السياسة التركية، والمسكوت عنه هنا في هذه الأخيرة هو أن كيتشلدار أوغلو ذي انتماء مذهبي أقلوي «علوي»، وهذا لوحده يرخي بظلاله الثقيلة على شخصية تريد الوصول إلى سدة السلطة في بلاد لا تعترف بهوية هذا المكون أو بطقوسه، ناهيك عن أن جل الأذرع التي تمدها الأحزاب أو المرشحون لتلك الأقلية لا تعدو أن تكون محاباة تهدف إلى كسب الأصوات في معمعة المعارك السياسية من شتى الصنوف.
قد تكون افتراقات المعارضة أكثر من أن تحصى، لكن الأبرز منها هو إعلان جبهة «الحرية والعمل» التي يمثل «حزب الشعوب الديمقراطية» جل قوامها عن أنها ستسمي قريباً مرشحها للانتخابات المقبلة بعيداً عن «طاولة الستة»، لكن الأخطر جاء على لسان أحمد داؤود أوغلو، رئيس حزب «المستقبل»، الذي قال إن رئيس الجمهورية المقبل، في حال فوز مرشح المعارضة، يجب أن يكون أمين سر لـ«طاولة الستة»، وألا يتخذ قراراته إلا بعد التشاور معها، والتصريح من الخطورة حيث إنه قد يؤسس لانفراط عقد المعارضة برمتها.
الآن، سيناريو تقريب موعد الانتخابات يحتاج إلى موافقة ثلثي أعضاء البرلماني التركي الأمر الذي لا يتوافر لائتلاف أردوغان الحاكم الذي يضم «الحركة القومية» إلى جانب حزبه، ولذا فإن أردوغان الذي يرى في التقريب لحظة سانحة لـ«قنص» الفوز ولو على مرحلتين، سوف يذهب على الأرجح إلى استخدام صلاحياته لحل البرلمان بتوقيت لا يقل عن شهرين تسبقان موعد 14 أيار، الذي يريده، لكي يصبح القرار نافذاً.
«عقاقير» أردوغان التي استخدمها لتشتيت المعارضة كانت ناجعة في أغلبها لدواع بنيوية عند هذه الأخيرة، وهو أحسن، ولا يزال، الاستثمار فيها، الأمر الذي تظهره استطلاعات الرأي الأخيرة التي تشير إلى ارتفاع حظوظه عما كانت عليه قبل نحو ثلاثة أشهر، وهو فيما تبقى من الوقت سيعمل على رفعها إلى الدرجة التي كانت عليها قبل نحو خمس سنوات حينما أصبح رئيساً للجمهورية بعد إقرار النظام الرئاسي العام 2017، ولعل من شبه المؤكد أن التوقيت التركي سيسير على ساعة أردوغان لخمس سنوات أخرى إذا ما استثنينا عامل القدر.
سيرياهوم نيوز1-الوطن