محمد ناصر الدين
«أكثر من الرعب، شكّلت غنائية الرعب بالنسبة إليّ صدمةً وإلى الأبد منحتني مناعة ضد كل الإغراءات الغنائية. الأمر الوحيد الذي رغبت به آنذاك بعمق ولهفة، هو نظرة صافية ومتحرّرة من الوهم. ووجدتها أخيراً في فنّ الرواية. لهذا السبب، أن يكون المرء روائياً شكّل بالنسبة إليّ، وأكثر من ممارسة أي نوع أدبي آخر، موقفاً وحكمة وموقعاً اجتماعياً. موقع يستبعد كل تماثل مع السياسة والدين والأيديولوجيا والأخلاق والجماعة.
لا تماثل واعٍ، عنيد، حانق، يُعدُّ هروباً أو سلبية، إنما يعدّ مقاومة وتحدّياً وتمرّداً، وانتهى بي الأمر إلى هذه المحاورة الغريبة:
هل أنت شيوعي يا سيد كونديرا؟
ad
– لا، أنا روائي.
– هل أنت منشقّ؟
– لا أنا روائي.
– هل أنت يساري أم يميني؟
-لا هذا ولا ذاك، أنا روائي».
لعلّ هذه الكلمات من الروائي الأبرز في العالم ميلان كونديرا (1929) تلخصّ حياة كاملة هرب فيها العملاق التشيكي (لم يسترجع جنسيته التشيكية إلا عام 2019) من كل التصنيفات السياسية والأيديولوجية إلى الرواية. هو الذي ترك بلاده الرازحة تحت القبضة التوتاليتارية إلى منفاه الباريسي عام 1975، ليهرب من زمن الرعب الذي يسيطر فيه شاعر الحزب الأوحد مع الجلّاد، وهو ما صوّره في تحفته «الحياة في مكان آخر»: هرب كونديرا من براغ وهو يفكّر بماياكوفسكي الذي كانت عبقريته ضرورية للثورة الروسية مثل شرطة دزيرجينسكي، وهارباً من كل أدبيات الشيوعية الحاكمة وخطاباتها وحماستها الغنائية التي شكّلت بالنسبة إليه جزءاً متمماً للعالم التوتاليتاري الذي شبّهه بعالم الغولاغ مع جدران خارجية موشّاة بآيات الشعر ويرقص الناس أمامها. لم يهرب كونديرا إلى المنفى الباريسي إلا ليشيّد عمارة هائلة في الرواية يحاكم فيها ماضيه بأسره كمن يجلد ظهره بالسوط، وتختلط فيها الأسئلة الكبرى بالسياسة، والفن بأوهامه عن التقدم، بأيديولوجيته عن الثورة والتقدم، ليكون الفن أولى ضحايا الاضطهاد السياسي كما أُرسل فونيك في رواية «المزحة» (1967) إلى فوج تأديبي لأنه كان يحب الفنّ التكعيبي.
ad
بسبعة عشر عملاً روائياً مترجماً إلى أكثر من 45 لغة (صدرت ترجمات معظم أعماله بالعربية عن «المركز الثقافي العربي» بيروت/ الدار البيضاء) تزدحم في مدخل بيته الباريسي كأنها ردهة في برج بابل وأبرزها «كتاب الضحك والنسيان» (1979) و«كائن لا تحتمل خفّته» (1984) التي تحولت إلى فيلم سينمائي (1988)، يعتبر كونديرا اليوم من أشهر الروائيين في العالم، كما كرّسه كتابه «فنّ الرواية» (1985) ناقداً كبيراً يحاور الأعمال العظيمة لماركيز وروث وسلمان رشدي. أضحت عناوين رواياته بمثابة الطوطم للكثير من القّراء، بحيث ملأت شذرات منها مواقع التواصل الاجتماعي واستلهم بعضها مغني الراب Nekfeu (كين ساماراس). لم يهرب كونديرا ـــــ الذي ظل الغزو السوفياتي لبلاده عام 1968 في وعيه بمثابة جرحه النازف ــــــ إلى أحضان «الإمبريالية» ليمجّد انتصارها على المعسكر الاشتراكي، وظلت الدوائر الأدبية والثقافية ولا سيما القريبة من «جائزة نوبل»، تغمز من ماضيه الشيوعي، ليصوم كونديرا عن التصريحات الإعلامية تاركاً لنا عالماً روائياً لا ينسى: من الجنس الكئيب إلى الضحك الأسود وابتسامة الكلب كارينين وتسمية مدينة كالينينغراد على اسم النقابي المصاب بالتبول اللاإرادي إلى إيماءة يد آنييس على حوض السباحة، إلى وصف الحياة برمتها في روايته الأخيرة بـ«حفلة التفاهة».
ad
* «ميلان كونديرا: ملحمة الأوهام المغدورة» عنوان وثائقي تعرضه قناة ARTE غداً الأربعاء (00.45 بتوقيت بيروت) تتناول فيه المخرجة جارميلا بوزكوفا المسار الفريد والغامض لصاحب «كائن لا تحتمل خفّته»، من تشيكوسلوفاكيا الشيوعية إلى منفاه الباريسي، من سعيه وراء المجد إلى اعتزاله المشهد الإعلامي.
سيرياهوم نيوز1-الاخبار اللبنانية