أيوب نصر
أما قبل، فإننا نتقدم بالتعازي للشعبين السوري والتركي في مصابهما، سائلين الله أن يرحم موتاهم، ويبدل ما بقي منهم حيا بحالهم حالا أحسن، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
خرج هنري كيسنجر عبر الفترة الممتدة منذ بداية العملية العسكرية إلى الآن، بأربعة تصريحات، يعبر في كل منها عن نظرته للأزمة ويقدم ما يراه حلا صالحا لها، وقد تميزت تصريحاته تلك باختلاف بعضها عن بعض اختلافا كبيرا، بل وتناقضات واضحكة أحيانا في بعض جوانبها، مع العلم أن الرجل ليس سياسيا عاديا، تولى منصبا أو إثنين تم ولى في حال سبيله، وإنما هو أحد صناع القرار السياسي في الولايات المتحدة الأمريكية، ورجل من رجال دولتها العميقة.
وقد كان ترتيب تصريحاته وفق السياق الزمني كالآتي:
التصريح الأول: وقد نصح فيه قادة الولايات المتحدة الأمريكية، وقادة باقي الدول الغربية، بأمرين، فأما أحدهما: ألا يهزموا روسيا وإن استطاعوا إلى ذلك سبيلا، وأما الآخر: أن تتنازل أوكرانيا عن بعض أراضيها لصالح روسيا.
التصريح الثاني: والذي تراجع فيه عن مضمون التصريح الأول، وذلك باعتباره أن روسيا هزمت في الحرب، وبأنه لا يجب التنازل عن أي جزء من أوكرانيا لصالح الروس، وهذا ليس مجرد تراجع، وإنما هو شيء يشبه الإنكار للتصريح الأول، فكأنما سمعه من شخص آخر، فذهب إلى رده وإنكاره.
التصريح الثالث: دعى فيه إلى إجراء استفتاء في الأراضي التي ضمتها روسيا تحت إشراف أممي، مع بقاء أوكرانيا محايدة
التصريح الرابع: عاد إلى رأيه الأول، والذي يتجلى في تنازل أوكرانيا عن بعض أراضيها، مع ضرورة ضم أوكرانيا لحلف النيتو.
ويمكن أن نجد له عذرا ونحدث له تبريرا، حين يتعلق الأمر بالتراجع عن تصريحه الأول في تصريحه الثاني، وذلك بأن نقول: إن تراجعه كان نتيجة للضغوطات التي تعرض لها، وأنه في قرارات نفسه إنما هو عند رأيه الأول، ولذلك حين رمى بالرأي الثاني لم يقدم من الأدلة والبراهين ما جعله يترك الرأي الأول ويعرج على الرأي الثاني، فكان تراجعه هنا من باب حفظ الخواطر.
ولكن حين بدأت تصريحاته توغل في التناقضات، فلم يعد هناك مجال لإحداث المبررات وإيجاد الأعذار، فكلامه الأخير، حول ضم أوكرانيا للحلف، لا ينطق به عاقل، فضلا عن أن ينطق به أحد كبار المنظرين الاستراتيجيين في العالم، وذلك أن أصل الأزمة كلها هو منع أوكرانيا من الإنضمام لحلف النيتو، فكيف يقدم إنضمامها حلا من الحلول؟؟ بل كيف يدعو إلى ضرورة تجنب حرب نووية ويقدم حلا لذلك هو نفسه فتيل لحرب نووية؟؟ إلا أن يكون الرجل خرف في آخر أيامه أو اختلط في آخر عمره، وخرفه واختلاطه وإن كانا جائزين وممكنين في حقه، إلا أن هناك من البراهين ما ينفيهما، منها كلامه الأول، ومنها أنه محاط بأناس يرشدونه إذا شرد، ومنها أنه للآن معتمد رأيه في المؤسسات الأمريكية.
إني أستبعد أن يكون الرجل اختلط في آخر عمره، وما نجده من اضطراب وتناقضات في تصريحاته، إنما يدل على شيء واحد، وهو التخبط العام الحادث في الدولة الأمريكية نفسها، وهذا التخبط مرده إلى فشل خططهم والتي قامت منذ البداية على المساومات (ورائحة المساومات تجدها في كل تصريحات كيسنجر)، فبعد فشلهم في المساومة على أوكرنيا بسحب الفاغنر من مناطق النفوذ الغربي، وذهاب روسيا إلى اعلان العملية العسكرية، وفشلهم بمساومتها بجعلها جزء من النظام العالمي واعتبارها قوة عسكرية، وإعراض الروس عن كل الاقتراحات التي تتضمن في طياتها شيئا من المساومة، بعد كل هذا بدأت تظهر الاضطرابات في تصريحات كيسنجر، والتي هي تعبير عن الاضطرابات التي تعيشها الدولة العميقة في الولايات المتحدة ككل.
كاتب وباحث مغربي
سيرياهوم نيوز 4_راي اليوم