يعتقد الكثير من الناس أن كلّ شخصٍ يعيش في روسيا، أو يحمل الجنسية الروسية هو روسي إثنياً بالضرورة، لكن حقيقة الأمر غير ذلك، فهذه الدولة الواقعة في قارتين، والتي تعتبر الأكبر في العالم من حيث المساحة، تحوي أكثر من 180 جماعة بشرية من مختلف الانتماءات العرقية الكبرى والديانات، وبحسب الإحصائيات الحكومية، فإن أكثر من 60 قومية من الشعوب القاطنة في الاتحاد الروسي، هي شعوب إسلامية.
المسلمون في روسيا.. سكّانٌ أصليّون
ينقسم المسلمون في العالم إلى قسمين، الأول يعيش في “بلاد الإسلام” أي الأراضي التي نزلت بها الديانة الإسلامية، والآخر عبارة عن جاليات شكّلها مغتربون، تحوّلوا إلى أقليّات في بلدان غير إسلامية.
لكنّ مسلمي روسيا يتمتّعون بوضعية مغايرة تماماً لهذا التقسيم المعروف، فهم لا ينتمون إلى أي من الفئتين، بل هم ملايين من السكّان المحليين الأصليين ومن هنا يأتي تمايزهم.
يعدّ الإسلام ثاني أكبر ديانة في روسيا بعد المسيحية الأرثوذكسية، إذ يصل عدد المسلمين إلى حوالي 20 مليون شخص، يمثّلون 11% من إجمالي سكان البلاد.
ويشكّل المسلمون أغلبية السكان في سبعة أقاليم روسية، هي إنغوشيا، والشيشان، وداغستان، وقبردينو- بلغاريا، وقره شاي -شركيسيا، وبشكيريا، وتتارستان، إلى جانب شبه جزيرة القرم التي عادت روسيا لتضمها إلى أراضيها عام 2014، ويشكل المسلمون حوالى 15% من سكانها.
وبينما ينتمي غالبية مسلمي روسيا إلى السُنّة، خاصة المذهبين الحنفي والشافعي، يتركز الشيعة في داغستان، وجلّهم منحدرون من أصول أذربيجانية وطاجيكية.
أما عرقيّاً، فينتمي مسلمو روسيا بالدرجة الأولى إلى التتار، الذين يشكلون قومية مميزة لها جمهورية متمتّعة بحكم ذاتي، بتعداد يفوق الخمسة ملايين نسمة، ثم تأتي قومية الداغستانيين الذين يفوق تعدادهم ثلاثة ملايين نسمة، وبعدهم المسلمون الشيشان والبشكير والشركس.
كان من الممكن أن تكون ديانة روسيا الإسلام.. ولكن
يُعَدّ الأمير فلاديمير الأول، أوّل من أدخل الديانة المسيحية إلى روسيا في القرن العاشر الميلادي، لكنه كان سيختار الدين الإسلامي لبلده وشعبه لولا عائق واحد.
تعود جذور القصة إلى ما قبل عام 988، حينما كان فلاديمير الأول يؤمن بالوثنية مثل والده، لدرجة أنه شيد معبداً لإله الرعد “بيرون” كي تُقدّم على محرابه الذبائح البشرية.
وحدث أنه ذات مرة وبعد عودته من انتصار في إحدى المعارك، قرر أن يقدم ذبيحة بشرية لشكر الآلهة، فوقعت القرعة على أب مسيحي وابنه.
لفتت ديانتهما انتباه الأمير الشاب، وقرّر التعرف إلى الأديان السماوية المنتشرة آنذاك، فأرسل حاكم البلغار (المسلمين الذين يقطنون على ضفتي نهر الفولغا)، وفداً إلى قصر الأمير كي يشرحوا له عن دينهم.
ولما سألهم عن العادات التي يمارسونها، والقوانين التي يلتزمون بها، والممنوعات التي يتجنبونها، قالوا له إن الإسلام حرَّم أكل لحم الخنزير وشرب الخمر.
استغرب الأمير لأنه معتاد على تناول مشروب روسي منقوع بالعسل يحتوي على الكحول، كونه يسلي جنوده به، ويتشاركه معهم بعد الانتصار، وعلى موائد الطعام، فرفض اعتناق الدين الإسلامي، قائلاً: “الشرب هو فرحة كل روسي، لا يمكننا أن نعيش بدون هذه المتعة”.
تابع الأمير رحلته في التعرف إلى الأديان، وقابل موفدين يعتنقون اليهودية، قدموا لشرح تعاليمها، لكنه رفض اعتناقها أيضاً بسبب عدم وجود وطن لهم، ليقع اختياره أخيراً على الدين المسيحي.
تتارستان.. ثقافةٌ مختلفة في أوروبا
ينتمي البُلغار إلى جمهورية تتارستان، إحدى الكيانات الفيدرالية في روسيا، وتقع في السهل الأوروبي الشرقي، على مساحة 70 ألف كيلومتر، ويقترب عدد سكانها من 5 ملايين نسمة.
وتروي عالية آيتوڤا، طالبة الاستشراق في جامعة كازان، للميادين نت، قصة اعتناق فولغا بلغاريا الدين الإسلامي قائلة: “عام 922، وصل أحد التجار المسلمين إلى بلادنا قادماً من مدينة بخارى، وكان الرجل عليماً وماهراً في الطب، وصودف وقتها أن أصيب ملك فولغا بلغاريا وزوجته بمرض صعب جعلهما طريحي الفراش، وأمام عجز الأطباء وبطلان الأدوية، تقدم التاجر ليعلن عن مقدرته على علاجهما، لكن شريطة أن يعتنقا دينه، فكان الشفاء وكان للتاجر ما أراد، ولأن الناس على دين ملوكهم، دان أهل البلاد قاطبةً بدين الإسلام”.
ويرتبط تراث فولغا بلغاريا بصلةٍ وثيقة مع ثقافة الشرق العربي، باللغة والآداب، وحتى العادات والقيم، التي لا يزال يلتزم بها السكان إلى وقتنا الحاضر، وتتابع آيتوڤا: “على سبيل المثال، توجد النصوص الرثائية لدينا، التي دُوّنت في القرنين الثالث والرابع عشر بالحرف العربي، ولا يخفى على كل من يزور كازان، اعتزاز أهلها بالقرآن الكريم، فهم الذين طبعوا أكبر نسخة له، بلغ وزنها 800 كغ، وشُيّد لها مبنى خاص عام 2012، احتفالاً بيوبيل اعتناق فولغا بلغاريا الإسلام”.
جولة داخل جمهورية تتارستان، خاصة في شوارع العاصمة كازان، بإمكانها أن تأخذ الزائر في رحلة روحية لأكثر من 1000 عام تقريباً، فلا يكاد يخلو شارع من أي معلَم إسلامي، لكن يتصدر المشهد الجامع الأبيض الذي بني فوق ربوة عظيمة، ويملك خاصية مميزة تشرحها آيتوڤا: “إنه الجامع والمسجد الوحيد الذي بني في العهد السوفياتي، مع أن السلطة السوفياتية قد انتهجت خطّاً معارضاً للأديان طول فترة حكمها، وهدمت الكنائس الأرثوذكسية، غير أنها تصرّفت بحذر حيال الأماكن الدينية للأقليات القومية”.
تسمى العاصمة التترية، بعاصمة الشباب، وتضم عشرات الجامعات، التي تخرج مئات آلاف الطلاب سنوياً من مختلف الاختصاصات، التي تأخذ الدراسات الإسلامية حيزاً مهماً منها. وتضيف آيتوڤا: “لدينا أول جامعة إسلامية رسمية في روسيا، تأسست بدايات القرن العشرين، وتحتضن 7 آلاف طالب، إلى جانب مطبعة تصدر سنويّاً 250 كتاباً بإجمالي نسخ يتجاوز المليون نسخة، ولدينا مكتبة إسلامية يزورها سنوياً أكثر من 20 ألف قارئ، ومسجد لكُل 1000 مسلم، وعشرات المراكز العلمية والدعوية”.
تفتخر الشابة العشرينية بعراقة قوميتها وأصالة جذورها وشجاعة أجدادها وتقول: “لست أنا فقط، بل حتى سيرغي سوليفيوف المؤرخ الروسي الشهير، يشاركني الرأي”، مشيرةً بذلك إلى عبارته الشهيرة: “في ذلك الزمان، حين لم يشرع السلافي الروسي في بناء كنائسه المسيحية بعد، كان الفولغي بلغاري يستمع إلى القرآن على ضفاف نهري الفولغا وكاما”.
المجتمع الشيشاني
دخل الإسلام الى الشيشان في عهد الخليفة الراشدي الثاني عمر بن الخطاب، تحديداً عام 642 ميلادية، ويتحدث عن هذه الفترة للميادين نت، طالب العلاقات الدولية في جامعة كازان، شهاب الدين طاهروف قائلاً:
“وصل المسلمون الى قلعة “ديربنت”، بعد فتح إيران، على رأس حملة بقيادة سراقة بن عمرو، ولم يدخل الناس في القوقاز الدين الإسلامي دفعةً واحدة لكن الشيشانين المسلمين زادوا بكثرة في القرن العاشر الميلادي”.
عاش المجتمع الشيشاني طوال فترة الحكم السوفيايتي التي امتدت أكثر 70 سنة، “حالة انغلاق بمواجهة الانفتاح الثقافي”، بحسب طاهروف، الذي أكد أن الناس بسبب ذلك، ظلوا محافظين على الكثير من العادات والتقاليد الراسخة، والتي يعتبرونها جزءاً منهم، لا يجوز التفريط أو التهاون بها.
فمثلاً بالنسبة للزواج لا يزال الشيشانيون حتى اليوم يعملون بقول النبي محمد: “أقلّهن مهراً أكثرهن بركة” ويشرح طاهروف: “لا يوجد مهر محدد للعروس عندنا ولا يوجد مغالاة أيضاً لكن كل النفقات على العريس ولا تتحمل المرأة أي شيء من جهاز البيت أو الشقة كما أن العريس لا يجلس بجوار عروسه في العرس”.
وعن طبيعة الأسر الشيشانية، وحياتها، يتابع الشاب الشيشاني المنحدر من العاصمة غروزني: “لا تزال الكثير من الأسر الريفية تعيش معاً في وحدات عائلية كبيرة، والعمل الإضافي الذي يوفره العديد من أفراد العائلة، يساعد على زيادة الرفاهية الاقتصادية، أما في المدينة، يحصل العكس تماماً، وتعتبر أصغر زوجة في الأسرة، هي أدنى شخص في التسلسل الهرمي للعائلة، لذلك عادةً ما تقوم بمعظم العمل والمهام غير المحببة”.
ومن الأمور المقدسة لدى أهل الشيشان، كرم الضيافة واحترام الضيف، وتعود أصول الاهتمام بهذا الموضوع إلى قديم الزمان، حين كانوا يسكنون في الجبال، حيث كان من الممكن لأي شخص أن يضيع بسهولة، أو أن يموت من الجوع، أو من هجوم الذئب أو الدب، لذلك كانت بيوتهم مفتوحة دائماً للغرباء، لتوفير الطعام والسكن لهم وهذا ما لم يتغير حتى وقتنا هذا ويقول طاهروف: “يجب أن يُستقبل الضيف من على باب البيت، وأن يُودّع عنده، ويجب أن يجلس في صدر البيت وأن يقدم له أفضل وأشهى أنواع الطعام، ويقيم الضيف 3 أيام في أي منزل لدينا، من غير المحبذ خلالها أن يُسأل عن الغاية من زيارته، إلا قبل مغادرته بساعات، كما يجب أن يُقدم للزائر هدية قبل ذهابه”.
يؤمن غالبية الشيشانيين، بأن دور المرأة الشيشانية الأساسي، هو الحفاظ على الأسرة وتربية الأطفال، فسابقاً كان عدد قليل من النساء يذهب إلى المدرسة، أو يعمل بمهن، أما اليوم، فتحصل النساء على التعليم العالي، ويعملن بمهن صعبة، ولكن بالرغم من ذلك لا يزال المجتمع الشيشاني تقليديّ تماماً، خصوصاً بنظرته تجاه الواجبات المنزليّة للمرأة.
ويفتخر الشيشانيون بأنسابهم، فمن الشائع أن يحفظ أي رجل أسماء 7 من أجداده على الأقل، بل يعتبر عيباً كبيراً إذا لم يفعل ذلك.
من ناحية أخرى، يعاني المجتمع الشيشاني من مشكلة اختطاف الفتيات لإجبارهنّ على الزواج، وتعود هذه الظاهرة إلى عدة قرون، وغالباً ما تتسبب بثأرٍ يطول بين عائلتي “زوجي عملية الاختطاف”.
ورغم أن السلطات تحارب هذا الأمر بشدة، فإنه لا يزال مستمرّاً بحسب طاهروف، الذي يشرح: “فرضت السلطات غرامة مالية كبيرة، على الخاطف “الراغب بالزواج”، وجرّمته هو وكل من يساعده في هذه العملية، وكذلك أي رجل دين، يقوم بعقد القران، وشهود عقد الزواج”.
يؤكد الشاب العشريني أن “الثأر في الشيشان، أمر مشدّد، ولا يمكن التهاون فيه أبداً” ويختم: “ينتقل الثأر من الأب الى ابنه أو أخيه أو أي شخص في الأسرة تباعاً، وعارٌ على من لا يأخذ بثأره، حيث يعتبره الجميع جباناً، ولا يستحق العيش بكرامة، إلا بعد أن يأخذ بثأره ويغسل عاره”.
سيرياهوم نيوز3 – الميادين