| شاهر الشاهر
معيار نجاح المبادرة الصينية هو أن يتقبلها جميع الأطراف. ولأن أوكرانيا ليست الطرف الآخر في المعركة، بل الولايات المتحدة، فإن قبول الأخيرة للمبادرة هو المعيار الحقيقي لنجاحها.
دخلت الحرب في أوكرانيا عامها الثاني، وسط مزيد من التصعيد بين طرفي النزاع، بما لا يدع مجالاً للشك في أن الحرب ماضية إلى أبعاد أخرى أكثر حدةً وتصعيداً هذا العام، وخصوصاً أن طرفي النزاع ماضيان في هذه الحرب، في ظل غياب الحوار بينهما وعدم قدرتهما على التواصل المباشر لإيجاد حل منطقي.
غياب التواصل بين طرفي الصراع أدى إلى وصولهما إلى ما يُسمى “معضلة السجينين”، التي ترى أن القرارات المدروسة والعقلانية ليست القرارات الصائبة دوماً بالضرورة، فالكثير منها مرتبط بتوقعاتنا لردود أفعال الآخرين، وحجم المعلومات التي نملكها، وليس دائماً المنطق والعقلانية.
هذه الحالة من الجمود وغياب التواصل هي التي تسعى بكين لكسرها، وصولاً بالطرفين إلى اتخاذ قرارات أكثر عقلانية، والبناء على القواسم المشتركة بينهما.
وانطلاقاً من حسابات الربح والخسارة التي تحكم عقلية التاجر، وعملاً بمبادئ السياسة الخارجية الصينية التي تسعى لتكريس “سياسة رابح- رابح” في العلاقات الدولية، صاغت بكين مبادرتها للحل السياسي في أوكرانيا.
إنَّ ازدياد الضغوطات الغربية على الصين لتحديد موقفها من الحرب، واتهامها بتزويد روسيا بمختلف أنواع الأسلحة، قد يكون الهدف منهما حثّها على المبادرة إلى إيجاد حل للصراع القائم، ليس في أوكرانيا فحسب، بل في أوكرانيا وكوريا الشمالية أيضاً، التي لا يمكن للولايات المتحدة التحدث إليها إلا عبر بكين.
هذه المبادرة يمكن أن نسميها ورقة عمل أو إعلان مبادئ أكثر من كونها إستراتيجية متكاملة؛ فصياغة الإستراتيجية والسعي لتحقيقها يتطلبان الموافقة المبدئية عليها من جميع الأطراف المعنية بالصراع. ومن خلال قراءة المبادرة التي تقدَّمت بها بكين، والتي تضمنت 12 بنداً، يمكن القول إنها ركزت على 4 محاور أساسية:
– الدعوة إلى المفاوضات بين الطرفين في أسرع وقت ممكن، ودعوة المجتمع الدولي إلى تسهيل هذه المفاوضات وتهيئة البيئة المناسبة لنجاحها.
– رفض استخدام الأسلحة النووية أو التلويح باستخدامها، في إشارة إلى رفض التصريحات الأخيرة التي أدلى بها الرئيس بوتين، التي تحدث فيها عن تطوير الترسانة النووية لروسيا (الثالوث النووي)، ما يعني أن هذه النقطة قد تغضب موسكو وتوجه رسالة مبطنة إليها.
– التركيز على الجانب الإنساني وضرورة حماية المدنيين (من النساء والأطفال)، ودعم إدخال المساعدات الغذائية اللازمة إلى مناطق الصراع.
– التركيز على تحييد الاقتصاد وعدم استخدامه أداةً في هذه الحرب، لما لذلك من انعكاسات كبيرة على الأمن الغذائي العالمي، فدعت المبادرة إلى احترام اتفاق تصدير الحبوب الموقع بين الأمم المتحدة وروسيا وأوكرانيا وتركيا، ودعت أيضاً إلى عدم استخدام سلاح الطاقة ورفض فكرة العقوبات الاقتصادية التي تؤثر في المدنيين في نهاية المطاف.
لماذا الآن؟
“إن أردت أن تلعب، فعليك أن تعرف قواعد اللعبة وزمانها”. ربما تكون هذه هي القاعدة التي تنطبق على اختيار بكين هذا الوقت بالذات لطرح مبادرتها؛ فهي لم تكن بمنأى عن الصراع الدائر في أوكرانيا. وقد أعلنت منذ اليوم الأول للحرب موقفها الواضح والمتوازن منها، وأعلنت أيضاً استعدادها لأداء دور الوساطة في حال رغب الطرفان في ذلك.
لكنَّ تلك الدعوة لم تلقَ قبولاً حينها، فقد كان الطرفان مندفعين للمضي في هذه الحرب، لقناعة كلٍّ منهما بقدرته على حسم المعركة سريعاً. وبالتالي، تحقيق النتائج المرجوة منها. ومع دخول الحرب عامها الثاني، تزداد احتمالات توسع رقعتها لتتحول إلى حرب عالمية ثالثة ستكون نتائجها الكارثية أكبر بكثير مما نتوقع.
حاولت بكين اتخاذ موقف متوازن من الحرب وفق مبدأ “الحياد الإيجابي”، لكن هذا الموقف لم يرُق للولايات المتحدة والدول الغربية التي طالبتها بمواقف أكثر وضوحاً ورفضاً لما تقوم به موسكو.
وقد حقَّقت كل من الولايات المتحدة وبكين مكاسب اقتصادية كبيرة من الحرب؛ فالصين باتت تحصل على النفط الروسي، وبأسعار مخفضة، وباتت علاقتها مع موسكو تميل إلى مصلحتها، لكونها باتت تشكل طوق النجاة لها.
أما الولايات المتحدة، فقد ازدادت قوتها الاقتصادية، فارتفع الدولار وسط انهيار باقي العملات، وخصوصاً اليورو، وحققت شركات الأسلحة الأميركية أرباحاً هائلة، إذ ازدادت أسعار أسهمها بنسبة 38% منذ بدء الحرب، لكن ذلك لن يستمر، وهو ما أدركته بكين، فسعت للعمل على وقف الحرب، منطلقةً في ذلك من عدة أسباب:
– الرغبة في أداء دور فاعل ومحوري في الساحة الدولية كدولة كبرى وراغبة في تكريس قيم المحبة والسلام على المستوى الدولي، فقد قدمت مبادرة للأمن العالمي كله، ثم طرحت مبادرة لحل الأزمة الأوكرانية.
– المصالح الاقتصادية الكبيرة لبكين مع كلٍّ من الولايات المتحدة والدول الغربية وأوكرانيا، ومع روسيا كذلك. لذلك، تسعى لوقف الحرب والمضي قدماً في تنفيذ توجهاتها الاقتصادية، وخصوصاً بعد إعلان نهاية الإغلاق بسبب “كوفيد 19″، وعودة عجلة الحياة في الصين.
– لم يعد من الممكن الاستمرار في الموقف الضبابي من الحرب، فتطوّرات الحرب قد تفرض على الصين حسم خياراتها وتحديد موقفها الواضح من طرفي الصراع، وهو ما لا تحبّذه بكين، فقد حرصت على الدوام، ورغم تطور علاقاتها مع موسكو، على تأكيد رفضها سياسة التحالفات، لعدم استفزاز الولايات المتحدة الأميركية.
– تخشى بكين هزيمة موسكو أو إضعافها بشكل أكبر، وهو ما يعني توجه الغرب إلى تضييق الخناق على الصين، وخصوصاً بعد إعلان إستراتيجية الأمن القومي الأميركي الأخيرة التي اعتبرت الصين تهديداً إستراتيجياً يجب التعامل معه واحتواؤه.
مضمون المبادرة الصينية
انطلاقاً من الحكمة الصينية القائلة: “كل هزيمة مرة ما لم تبتلعها”، وانطلاقاً من معادلة “رابح – رابح” التي تسعى بكين لإقناع الطرفين بها، فقد انطلقت المبادرة الصينية لحل الأزمة في أوكرانيا من فكرة أن الولايات المتحدة انتصرت على روسيا من خلال إلحاق خسائر مادية كبيرة بها، عبر سياسة العقوبات الاقتصادية الضخمة التي فرضت عليها، ومن خلال التعاطف الدولي الكبير مع أوكرانيا، الذي بدا جلياً في مواقف الدول في الجمعية العامة للأمم المتحدة، والإدانة الكبيرة لـ”الاجتياح الروسي” لأوكرانيا، ودعوة موسكو إلى الانسحاب الفوري من الأراضي التي “احتلتها”.
كما أن موسكو انتصرت على أوكرانيا وألحقت هزائم كبيرة بها، وأصبح سقف المطالب الغربية هو عودة الوضع إلى ما كان عليه قبل الحرب وإقناع أوكرانيا بتحقيق شيء من الانتصار، إذا ما تحقق الانسحاب الروسي وبدأت عملية إعادة الإعمار في كييف بمساعدة المجتمع الدولي كله.
هذه الرؤية، في ما لو استطاعت بكين الترويج لها وإقناع أطراف الصراع بها، قد تشكل فرصة كبيرة أمام نجاح مبادرتها التي لم تعلنها لتفشل، وخصوصاً أن بكين اليوم بغنى عن التعرض لأي إخفاق في توجهاتها وسياساتها.
وكان ألكسندر دوغين قد تحدث عن مقاربة قريبة من هذه الرؤية الصينية كطريق لنجاح المفاوضات بين الجانبين الروسي والأوكراني، وهو ما يؤكد الأنباء التي تحدثت عن صياغة مشتركة صينية – روسية لهذه المبادرة.
الموقف من المبادرة الصينية
كما هو متوقع، بادرت أوكرانيا إلى الترحيب بالمبادرة الصينية، انطلاقاً من رغبتها في إيجاد حل للمأزق الذي تعيشه اليوم، فهي تخوض حرباً خاسرة بكل المقاييس، انطلاقاً من أن “أي معركة تخوضها على أرضك هي معركة خاسرة حتماً”.
كما أنَّ كييف تثق ببكين وتسعى لتحسين علاقاتها معها، لما لذلك من نتائج اقتصادية كبيرة عليها، ونظراً إلى سياسة بكين المتوازنة من المشكلات الدولية بشكل عام، والأزمة الأوكرانية على وجه الخصوص.
أما الولايات المتحدة، فقد أعلنت رفضها المبادرة انطلاقاً من أن الصين “ليست طرفاً نزيهاً في الحرب”، فهي منحازة إلى موسكو وفقاً للرؤية الأميركية، كما أن الولايات المتحدة لا ترغب في أن تؤدي بكين دوراً في حل النزاعات الدولية، لما لذلك من انعكاسات إيجابية في تعزيز قوتها الناعمة.
وقد حذّرت من استمرار بكين في دعم موسكو وتزويدها بالأسلحة النوعية التي تعزز قدراتها وثباتها في وجه التحالف الغربي.
أما دول الاتحاد الأوروبي، فهي بشكل عام تدعم هذه المبادرة انطلاقاً من مصلحتها في إنهاء الحرب، ونتيجة لعلاقات تلك الدول المتميزة مع بكين، ونظراً إلى الانعكاسات الاقتصادية الكبيرة للحرب على الاقتصاد الأوروبي.
بالنسبة إلى موسكو، فقد رحّبت بالمبادرة الصينية، انطلاقاً من رغبتها أساساً في عدم وقوع الحرب وعدم تطور مجرياتها التي لا تخدم توجهاتها الإستراتيجية، ونتيجة للعلاقة المتميزة مع بكين التي تفهمت منذ البداية المخاوف الأمنية لموسكو، والتهديدات التي يسببها توسع حلف الناتو شرقاً وصولاً إلى أوكرانيا.
هل تنجح هذه المبادرة؟
هذا هو السّؤال المهم والجوهري: إذا كان من غير المتوقع أن تنجح المبادرة، لماذا بادرت بكين إلى طرحها؟ وما المحدد لنجاحها؟ وهل فعلاً الصين جادة بالانخراط في البحث عن حلول للمشكلات الدولية والتخلي عن سياسة الانغلاق وتحصين الذات؟
معيار نجاح المبادرة هو أن يتقبلها جميع الأطراف. ولأن أوكرانيا ليست الطرف الآخر في المعركة مع موسكو، بل الولايات المتحدة، فإن قبول الولايات المتحدة بالمبادرة هو المعيار الحقيقي لنجاحها.
وعلى الرغم من أنَّ الموقف الأميركي المبدئي كان موقفاً رافضاً لهذه المبادرة، بذريعة أن بكين ليست طرفاً نزيهاً ليتسنى لها القيام بدور الوساطة، فإنّ الأيام المقبلة كفيلة ربما بحدوث تغيير في هذا الموقف، وإن كان ليس على المدى القصير ربما، نتيجة اقتراب موعد الانتخابات الرئاسة الأميركية، ولأن الولايات المتحدة ما زالت أكبر مستفيد من هذه الحرب.
لم تكن بكين ستقدم على طرح مبادرتها لو لم تكن تمتلك فرصاً كبيرة للنجاح، وخصوصاً أنها لا تريد أن يكتب لها الإخفاق، وعلى أيِّ مستوى.
سيرياهوم نيوز3 – الميادين