| سارة حبيب
ماذا لو استيقظ البيض يوماً ليجدوا أنهم فقدوا بياضهم؟! تحاول رواية محسن حامد “آخرُ رجلٍ أبيض” الفنتازية استكشاف أبعاد هذا السؤال.
الرواية: “آخرُ رجلٍ أبيض”
تأليف: محسن حامد
مراجعة: سارة حبيب
الناشر: دار ريفردهيد بوكس – 2022 |
في رواية “آخرُ رجلٍ أبيض”، للكاتب البريطاني-الباكستاني محسن حامد، يستيقظ أندرز، بطل الرواية، ذات صباح ليكتشف أنه غيّر عرقه. ينظر في المرآة فلا يرى الوجه الأبيض المألوف، بل “الرجل الغامق اللون الذي كان في السابق أندرز”. هذه الرواية هي الرواية الخامسة لحامد، وقد صدرت في آب/أغسطس عام 2022 عن دار ريفرهيد بوكس Riverhead Books”. والجملة الافتتاحية فيها تبدو مألوفة للغاية: “ذات صباح، استيقظ أندرز، الرجل الأبيض، ليجد أنه تحوّل إلى لون أسمر غامق لا يمكن إنكاره”. إنها افتتاحيةٌ شبيهة بالافتتاحية الكافكاوية الشهيرة لكتاب “الانمساخ”. ومثل النماذج الأدبية المشابهة من “الانمساخ” لكافكا إلى “العمى” لساراماغو، لا يسعى حامد لشرح سبب حدوث هذا التحول الدارماتيكي، بل يكتفي باستكشاف الأثر الذي يتركه على سكان البلدة مجهولة الاسم التي يعيش فيها أندرز. أندرز هو أول من يخضع للتحول، لكن الرواية تصبح مع الوقت أمينة لعنوانها، ولا يبقى في النهاية سوى رجل أبيض واحد، ومن ثم لا أحد. “البشر يتغيرون”، تقول شخصية من الرواية. وبالنسبة إلى عشّاق الحكايات الغريبة، هذه كلمات واعدة، لأن التغيّر الخارج عن السيطرة هو أساس الروايات الفنتازية.
رد الفعل الأول لأندرز هو الذعر؛ يجعله حدسه الأول يفترض أن شخصاً آخر هو الذي ينام في سريره. “لم تكن صدمة، أو حزناً، رغم أن هذه الأشياء كانت موجودة أيضاً. إنما، قبل كل شيء، ملأه الوجه الذي حلّ محلّ وجهه بالغضب، أو بالأحرى، بشعور أكثر من الغضب، بحنقٍ غير متوقع وقاتل”، يكتب حامد. وهذا الغضب الذي سبّبته حالته الجديدة، ممزوجاً بحنين سريع لهويته المفقودة، يعيد أندرز إلى السرير. “أدركَ أنه قد تعرض للسرقة. أنه كان ضحية جريمة، جريمة كان رعبها يتصاعد فحسب، جريمة أخذت منه كل شيء، أخذت نفسَه من نفسه”. وهذه الجملة الأخيرة تجعلنا نشعر بلسعةِ رؤى محسن حامد، بقدرته على التعبير عن مسلّمات تفوّق البيض.
تغيير اللون والتمييز العنصري
بطل الرواية هنا واسع الاطلاع بقدر مبتكِره، ولهذا من شأنه أن يكون شاكراً لأنه لم يتحول إلى حشرة عملاقة كبطل رواية كافكا. مع هذا، الاستجابة الأولى هي العنف، لا يشعر أندرز بالغضب إلا عند خسارة بياضه: “أراد أن يقتل الرجل الملوّن الذي واجهه هنا في بيته، أن يطفئ الحياة التي تحيي جسد هذا الآخر، ألا يترك شيئاً سوى نفسه، نفسه كما كانت سابقاً”. لكنه يهدأ عندما يعلم أن ثمة جائحة عامة؛ أن التحول يصيب مع الوقت جميع الذين كانوا سابقاً بيضاً: حبيبته أونا، والدتها العنصرية، وفي آخر الأمر جميع من ولدوا بيضاً، فيما عدا والده المحتضر، وهو شخصية ثانوية منحت الكتاب عنوانه اللافت، وإن يكن عنواناً مضلِّلاً.
يركّز الكاتب على العلاقة القريبة بين أندرز وأونا، وآبائهما. المشاهد بين أونا ووالدتها معالَجة بحساسية، كما هي مشاهد زيارة أندرز لوالده المحتضِر، وقلقه من احتمال ألا يميّزه والده بعد تغيّر لون جلده.
أندرز إنسان عادي محبوب يعمل كمدرب شخصي في صالة رياضية. وجرّاء التحول الذي أصابه، يخبر مديره في البداية أنه مريض جداً ولن يستطيع القدوم إلى العمل. لكن، وحده الجوع يجبره آخر الأمر على الخروج، على العودة إلى رفقة الآخرين. في خروجه الأول، لا يبدو أن أحداً في محل البقالة يلاحظ تحوّله، أو حتى يلاحظه هو، لكنه يشتبه بعدائية ستأتيه من البيض، ويدرك بسرعة مقتضيات مظهره الجديد. يعرف أندرز بغريزته أنه “من الضروري ألا يُرى بوصفه تهديداً. لأنه، أن يُرى كتهديد، باللون الغامق الذي بات عليه، كان يعني خطر أن يتعرض للطمس”.
تأثير اللون على الحب
يعيش أندرز علاقة متقطعة مع أونا، معلمة اليوغا وحبيبته منذ الطفولة التي تشعر أنها تعيش “حياة منقطعة أو مهجورة” بعد تعرضها لتراجيديا عائلية. وحين يسبقها أندرز إلى التحول، تخبره أونا أنه يبدو “شخصاً مختلفاً، شخصاً مختلفاً بكل معنى الكلمة”، حتى أنها تنفر من فكرة إقامة علاقة جسدية مع رجل غامق اللون، حتى وإن كان شخصاً تعرفه جيداً. أما والدة أونا فهي تبدو أكثر نفوراً من فكرة إقامة العلاقات عبر الأعراق، وتصاب بالذعر عند اكتشافها علاقة ابنتها مع رجل غامق اللون. والوالدة، فوق ذلك، مؤمنة بنظريات المؤامرة ولذلك تعتقد أن هذه التحولات المتتابعة في لون الناس هي مؤشرات لمؤامرة تحاول إبادة البيض، ولهذا تحاول أن تجد العزاء في منتديات تبدأ بالانتشار على الإنترنت.
لكن، مع استمرار فقدان المزيد من الناس لبياضهم، تنتقل البلبلة من الإنترنت إلى الشوارع. يسيطر المتشددون على المدينة محتجين ضد حقيقة أنها أصبحت “مكاناً مختلفاً، بلداً مختلفاً، مع كل أولئك البشر غامقي اللون في الأرجاء، بشر غامقي اللون يفوقون البيض عدداً”. تُرهب عصابات البيض الأشخاصَ الذين اكتسبوا لوناً غامقاً، يرفض بعض العنيدين قبول نهاية البياض، ويقتل بعض المتحولين أنفسهم من شدة اليأس. وفي مواقع التواصل الاجتماعي، ينتشر حديث عن “دواء خارق… لإبطال الرعب”. بالعموم، يجد فاقدو البياض أنفسهم مجبرين على مواجهة حقائق مزعجة تتعلق بالسلطة والهوية. من ناحيته، يجد أندرز أنه لم يعد مرحّباً به في الصالة الرياضية التي لم تكن تضم في السابق سوى موظف واحد غير أبيض هو البواب. وبهذا يدرك أندرز أن “طريقة تصرّف البشر حولك، تغيّر ما أنت عليه، من أنت عليه”، لكن ذلك التغيير ليس بالضرورة سلبياً كلياً. فبعد التغيّر الذي أصابه، يصبح أندرز أقرب من والده المريض الذي ينتمي إلى الطبقة العاملة، وينتقل للعيش معه في آخر الأمر. كذلك، تزدهر علاقته مع أونا رغم العنف في الشوارع، ورغم الإحساس الذي يخيّم على كل شيء بوجود تهديد وشيك. تصوّر الرواية أيضاً عزلة شبيهة بتلك التي فرضتها جائحة كورونا: حين يتصاعد العنف، يبقى أندرز وأونا كلّ في منزله، ويكتفيان باختبار هذا التغيير عبر الإنترنت وعلى شاشة التلفاز.
تفوق البشرة البيضاء؟
علاوة على ذلك، تتعامل كل شخصية مع فقدان بياضها على نحو مختلف. والدة أونا، على سبيل المثال، تحافظ على الأمل بأن أحفادها سوف يولدون ببشرة بيضاء. ويحاول أندرز أن يتأقلم مع حقيقة أنه صار يُرى على نحو مختلف من قبل زملائه وزبائنه في الصالة. أما أونا فهي الشخصية التي يمنح استجواب الذات عندها الاستجابةَ الأكثر تأثيراً للتحول الحاصل، لا سيما وأنها، إلى جانب تعاملها مع فقدان ذاتها السابقة، ترزح تحت وطأة الحزن الناجم عن موت شقيقها بجرعة زائدة. مع هذا، تتبدى عندها بعض طقوس الاعتراف بالماضي الشائعة: إعادة النظر في صور قديمة، العودة إلى أماكن مألوفة، سرد قصص عن الذين فقدتهم، إنما مع قبولها بضرورة التغيير.
على الرغم من أن “آخر رجل أبيض” هي رواية قصيرة (أقل من 200 صفحة)، فهي تمتاز بجملها الطويلة للغاية؛ نقرأ أحياناً جملة بطول مقطع. هكذا، يُعطى السرد إحساساً لاهثاً من خلال صفّ العبارة فوق العبارة في جمل تفيض على امتداد صفحات عديدة، لا سيما من خلال استخدام الفواصل بدلاً عن النقاط. وهذا بدوره يصنع كتاباً موسيقياً على نحو غريب، كما لو أنه يُسرَد كحكاية شعبية للأجيال القادمة. يعكس أسلوب الكاتب أيضاً رشاقة تفكيره. ورغم الافتتاحية الكافكاوية، أسلوب محسن حامد النثري في هذه الرواية أقرب إلى “عمى” ساراماغو منه إلى كافكا.
تتمتع الرواية أيضاً بميل كاتبها إلى تجنيب شخصياته عناءَ مواجهة أي مشكلة جدية، فيما عدا المشكلة المحورية. على سبيل المثال، في المشهد الأكثر دراماتيكية، يواجه أندرز رجالاً مسلحين على بابه، يغادرون، يهرب، ولا يظهرون مرة أخرى. تقوم شخصيات الرواية بالكثير من التحديق، والتساؤل، والإدراك، لكنها لا تقوم بالكثير من الفعل، كما لا يفعل أحد الكثير لهم.
ومع اقتراب نهاية الرواية، نعرف أن أندرز وأونا قد أنجبا ابنة، أن كل البيض قد اكتسبوا لوناً غامقاً وأن الحياة، يمكن القول، ليست بذلك السوء.
محسن حامد والأدب التخييلي
في مقالة كتبها في صحيفة “الغارديان” لبريطانية عام 2017، دعا حامد إلى “أدب تخييلي جذري، ملتزم سياسياً”. وفي ملاحظة تركها للقراء في أحد كتبه، قال: “أعتقد أن للأدب قوة غريبة…تمكّنه من زعزعة التصورات الجمعية التي نرثها ونعيد إنتاجها”. هكذا، “آخر رجل أبيض” تحتوي على أجندة إضافية: إنها لا تحاول زعزعة تصوراتنا السامة وحسب، بل كذلك أفكارنا التقليدية عن الأدب ذاته.
إن هذه الرواية، في صميمها، هي رواية عن رؤية الآخر، وعن كون المرء موضع رؤية. وهي رواية عن الخسارة وتجاوز الخسارة. إن خسارة الامتياز الذي يأتي من كونك تُدرَك بوصفك من البيض، وكونك لم تعد قادراً على رؤية العالم من داخل البياض، هي بعض المخاوف التي تتناولها الرواية. ومثل هذه القصة لا يمكن أن يكتبها إلا كاتب وفيّ لرحلته الشاقة عبر الطيف العرقي ومدرك لها. في مقالة “الغارديان”، شرح حامد أن روايته هذه تطورت من حادثة خسارته المفاجئة لامتيازه كأبيض بعد أحداث الحادي عشر من أيلول / سبتمبر 2001. “لقد كنتُ دوماً رجلاً أسمر اللون يحمل اسماً مسلماً”، يقول حامد. “لكني كنت أبيض بما يكفي لتكون لي حصة من منافع البياض. أما الآن فقد أُلغِيت عضويتي الجزئية تلك”. في تلك الأيام، وجد حامد نفسه قيد التوقيف للاستجواب في المطارات، وموضع نظرات الخوف من قبل ركاب الحافلات والقطارات. لقد بدا كما لو أن جلده صار أسودَ فجأة وبات مشتبهاً به. ونبرة الرواية تردد صدى ذلك الحزن المعقد الطافح بشعور العار.
في هذه الرواية، ومن خلال جعلِ ما نجده مألوفاً يصبح غريباً، يذكّرنا الكاتب بقدرتنا على تجاوز رؤانا المحدودة واحدنا للآخر. هكذا، ترغمنا الرواية على تفحّص الطريقة التي يحدّد بها العرق رد فعلنا تجاه الآخرين، وتصورّنا لأنفسنا. مع نهاية الرواية، تفكر أونا في أن التغيير الاجتماعي لا يعني نهاية الأشياء:
“بوسعها أن تتخلص من جلدها كما تتخلص أفعى من جلدها، ليس بعنف، ليس حتى ببرود، بل من أجل التخلي عن تقييد الماضي، ومن أجل النمو من جديد، بعد الانعتاق”.
الهجاء الديستوبي
إنها رواية مخلصة للهجاء الديستوبي، من حيث أنها تصف قيامةً خاف منها طويلاً المؤمنون بتفوق البيض. لكن، بالنسبة إلى رواية تستكشف وظائف وافتراضات وعجرفة العنصرية، “آخر رجل أبيض” هي قصة مليئة بالأمل على نحو غريب. قد يكون منهجها مبنياً على تأمل خيالي، لكنه يؤدي في آخر الأمر إلى حتمية التنوير الاجتماعي. تتوقع الرواية حدوث ذلك اليوم الجميل الذي نغلق فيه أخيراً نعش التراتبيات العنصرية ونبدأ برؤية واحدنا الآخر على ما نحن عليه. ينهي حامد هذه الحكاية الرمزية الغريبة بنبرة متفائلة، مشيراً إلى إمكانية التغلب على الاختلافات العرقية، وإدراك إنسانيتنا المشتركة. وتنتهي الرواية مع شعور أندرز بأن “شيئاً جديداً يولد”. وبهذا ندرك كمّ التغير الذي أصابه منذ بداية الرواية بعد الحياة اليائسة التي عاشها كرجل أبيض. وندرك أيضاً أن منظورنا، مثل منظوره، قد تغيّر بشكل كبير بواسطة القوة الاستثنائية لرؤى محسن حامد حول عالم مجرد من التحامل العنصري، عالم يبدو ممكناً في الرواية، مهما بدا صعب المنال في الواقع.
سيرياهوم نيوز3 – الميادين