آخر الأخبار
الرئيسية » تحت المجهر » واشنطن… لمحات من مسار الهيمنة!

واشنطن… لمحات من مسار الهيمنة!

 

رأي سعد الله مزرعاني

 

كان يُصنّف هذا العنوان في مرحلة «الحرب الباردة» (1945-1990) على أنه ذو طابع «إيديولوجي»، أي أنه مستند إلى انحياز مسبق يستلهم العقيدة لا الموضوعية. إثر انهيار الاتحاد السوفياتي، سارع مفكرون (منظِّرون) بورجوازيون إلى إصدار «فتوى» ببلوغ التاريخ «نهاية» مساره (فوكوياما): كان ذلك يعني، في ما يعني، إضفاء صفة مخادعة، تقدمية وحضارية وإنسانية على النظام الرأسمالي، بوصفه محرّكاً لتقدم البشرية الشامل، أي بوصفه نظام حرية «طبيعياً» لا إكراه فيه ولا قمع.

 

في مجرى توطُّدها كنمط إنتاج عالمي، مرّت الرأسمالية المنتصرة على النظام الإقطاعي، منذ أواسط القرن الـ16، بمراحل وتحولات جوهرية. لقد تمكنت من إرساء الدول القومية ولا سيما في أوروبا. وهي بادرت إلى فصل الدين عن الدولة. ثمّ أطلقت لاحقاً مسار الصراع مع الإمبراطوريات القديمة وقضت عليها، وورثت مستعمراتها في الحرب العالمية الأولى. انتقل التنافس الضاري مُطعّماً بنكهة قومية شوفينية وعنصرية، إلى طور لاحق قاد إلى نشوب الحرب العالمية الثانية لإعادة اقتسام الأسواق والمواد الأولية بزعامة ألمانيا النازية. أضعفت الحرب الضواري الرأسمالية، وهُزمت النازية شر هزيمة. تكرّس في السياق، بالبطولات والتضحيات الهائلة، انبثاق وحضور الاتحاد السوفياتي ومنظومته قطباً ولاعباً دولياً جديداً. برزت، بالمقابل، قوة مهمة كانت تتحفَّز وتتربّص، هي الولايات المتحدة الأميركية التي خرجت من الحرب العالمية الثانية بأقل الخسائر وأعظم الأرباح!

ad

 

باشرت واشنطن دخولها المسرح الدولي (بعد مرحلة حياد شكلي ومخادع)، على أوسع نطاق، عبر سياسة العصا (قنبلتا هيروشيما وناكازاكي غير الضروريتين)، والجزرة، عبر (مشروع «مارشال») لإعادة ضبط سياسات ومصائر الدول المهزومة والخاسرة في الحرب، على الإيقاع الأميركي الجديد. كتب أندريه غروميكو، رئيس الدبلوماسية السوفياتية لعقود (في مذكّراته): «وجدت السياسة الأميركية (الجديدة) أحد انعكاساتها عام 1957 في الإعلان الرسمي عن “مبدأ أيزنهاور-دالاس” الذي تمنح بموجبه واشنطن نفسها الحق باستخدام القوة العسكرية لفرض هيمنتها على الشرقين الأدنى والأوسط…تحت غطاء مواجهة الخطر الشيوعي!». في السياق نزل، بالفعل، الأسطول الأميركي السادس في لبنان دعماً للرئيس كميل شمعون الذي كان قد انضم إلى «حلف بغداد» الذي كان أُنشئ عام 1955 بقيادة بريطانية أميركية.

الواقع أن كل شيء كان ممهّداً لواشنطن لفرض عولمة اقتصادية سياسية أمنية استهلاكية كاملة لولا أن إحدى نتائج الحرب الثانية، كما أشرنا، كانت نشوء الاتحاد السوفياتي ومنظومته الاقتصادية والسياسية والعسكرية والإيديولوجية.

ad

 

لم يكتف مقتنصو النصر الأميركيون بالمنافسة في الحقل الاقتصادي في شروط ملائمة لهم تماماً، فهم، وتحت عنوان التصدي لـ«الخطر الشيوعي»، اشتقوا مشروعاً كاملاً لعولمة أميركية جامحة وطاغية ما لبثت أن تحولت إلى حرب باردة مدجّجة بالأحلاف والقواعد العسكرية والأساطيل البحرية وسباق التسلح في الأرض والفضاء والمحيطات. فضلاً عن منظومة إيديولوجية إعلامية تتكامل وتتعاظم باستمرار من خلال تطور تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات خصوصاً: لشيطنة الخصم وإلصاق تهمة «الشر» على مجمل علاقاته ومواقفه.

في مجرى ذلك، بكّرت واشنطن في محاولة شطب كل ما نشأ من علاقات وأحلاف في وجه النازية والفاشية، ومن نتائج نجمت عن الحرب الكونية الثانية. وهي بادرت إلى إنشاء «حلف الناتو»، فور انتهاء الحرب ورداً على محاولات الاتحاد السوفياتي الترويج لمبدأ «التعايش السلمي بين الأنظمة الاجتماعية المختلفة». ومن المفارقات، التي تتكرر اليوم، أن الوفد السوفياتي في لقاء «الأربعة الكبار» (أميركا، الاتحاد السوفياتي، بريطانيا وفرنسا) في جنيف عام 1955، اقترح انضمام موسكو إلى حلف «الناتو»! وبعد أكثر من ستة عقود، اقترح الرئيس بوتين على «الشركاء» الأميركيين والغربيين انضمام روسيا إلى الحلف نفسه. أمّا الرد الأميركي-الغربي، فكان في الحالتين: الدهشة، والرفض والإمعان في محاولة التصعيد السياسي والأمني والاقتصادي.

ad

 

في امتداد تاريخ دموي بدأ بإبادة السكان الأصليين، استكملت سلطات الولايات المتحدة بلورة شخصيتها بالتمييز العنصري داخلياً، وبالتوسع الاستعماري وخوض حروب احتلال وهيمنة على امتداد العالم، بينها محطات لا تُنسى كالعدوان على فييتنام (1965)، وحصار كوبا منذ عام 1965، واحتلال أفغانستان والعراق منذ حوالي 20 عاماً، وحصار وإفقار فنزويلا لإطاحة سلطتها الشرعية، وصولاً إلى الحصار الشامل لإيران، وهي استخدمت ولا تزال أقذر الوسائل، كالتدخل المباشر والغزو وتنظيم الانقلابات العسكرية ودعم الأنظمة الديكتاتورية والعنصرية ونشر الأساطيل وزرع مئات القواعد العسكرية حول العالم، إلى استحداث واستخدام مافيات الإرهاب والمخدرات، إلى سياسات التفرقة وإثارة الانقسامات العرقية والطائفية، فضلاً عن استغلال أخطاء الخصم: الكبيرة منها والصغيرة. بذلك وسواه باتت واشنطن حاضرة في كل أزمات العالم، تغذية أو استغلالاً، من أجل مراكمة مصادر قوة واستئثار إضافية، ولاكتساب أسواق جديدة وللسيطرة على مصادر وممرات الطاقة وبقية الموارد والثروات الطبيعية والاستراتيجية. وهي اليوم تستخدم «الحرب الناعمة» بعد أن تكبّدت خسائر هائلة في حروب الغزو والاحتلال التي جرت تحت العنوان القديم الجديد: وضع قوة أميركا العسكرية في خدمة هيمنتها الاقتصادية، كما أكدت «استراتيجية الأمن القومي الأميركي لعام 2002» المقرّة في عهد الرئيس بوش الابن و«المحافظين الجدد»، والتي مهّدت للغزو الأميركي للعراق في نيسان 2003.

ad

 

لم يؤدِّ انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991، إلا إلى المزيد من السعي الأميركي لتعزيز الهيمنة ولاستحداث وسائل جديدة، مباشرة أو غير مباشرة، أكثر ضراوة وقذارة. أي أنه لم يؤدِّ سوى إلى تأجيج التناقضات وبالتالي إلى تغذية الصراعات وزيادة عدد ضحاياها على امتداد العالم. ليست الصراعات هي التي تؤدي، أساساً، إلى التناقضات. العكس هو الصحيح. فالولايات المتحدة قد استغلّت زوال الثنائية القطبية من أجل التفرد والمزيد من التوسع والنهب والسطو على ثروات وموارد الآخرين وحقوق ومصادر حياتهم: شعوباً وطبقات شعبية، بمن في ذلك عشرات الملايين من الشغيلة والمستخدمين الأميركيين أنفسهم! كذلك تمَّ تشديد الاعتداء على حقوق شعوب بأكملها، بما فيها في دول حليفة، لتسخيرها في خدمة مصالح الاحتكارات والمجمع الحربي الأميركي. في مجرى ذلك استشرست واشنطن لإزاحة كل منافسة متشبّثة بالتفرد والوحدانية ولو كلّفها ذلك خسائر فادحة أو اضطرها إلى فتح عشرات الجبهات في العالم وضد أكبر دوله وشعوبه، كما بالنسبة إلى الصين وروسيا وإيران و«القارة العجوز» أوروبا نفسها كما يحصل اليوم في التعامل الأميركي مع الحرب في أوكرانيا حيث تتجاهل واشنطن، بالكامل، مصالح الأمن الأوروبي التي صمام أمانها احترام مصالح روسيا قبل أي طرف آخر.

ad

 

أولت واشنطن دائماً أهمية خاصة لمنطقة الشرق الأوسط. أشرنا إلى مشروع «ايزنهاور» عام 1957. ودائماً، ومنذ مراحل نشوء المشروع الصهيوني كانت واشنطن، وما زالت، داعمة وراعية لكل مراحله الاغتصابية والعدوانية. غزو العراق عام 2003 كان في خدمة مشروع «الشرق الأوسط الكبير». كذلك الأمر بالنسبة إلى مشروع «صفقة القرن». والمشروعان يستهدفان خدمة العدوانية الصهيونية، بالدرجة الأولى. وتحتل واشنطن بالعدوان السافر أراضيَ في العراق وسوريا وتتحكم بمصائر الكرد ومعها مصائر أربع دول إقليمية مهمة في المنطقة، مستغلّة أخطاء تتعلق بالمساواة أو حق تقرير المصير. هذا فضلاً عن قواعدها العسكرية في الخليج وأساطيلها في بحار المنطقة وممراتها الإستراتيجية. هذا السياق هو الذي يحدد سياسة واشنطن حيال لبنان منذ غزو شواطئنا عام 1958 حتى اليوم: بالضغوط والحصار والعقوبات وتغذية التناقضات، دعماً للفاسدين واستهدافاً للمقاومة ضد العدو الصهيوني.

ad

 

مقاومة مشروع الهيمنة الأميركية هي أولوية الكفاح الأممي والوطني التحرري على حدّ سواء.

 

* كاتب وسياسي لبناني

 

سيرياهوم نيوز1-الاخبار اللبنانية

x

‎قد يُعجبك أيضاً

رفض الابادة الصهيونية رغم الضغوط ومحاولات القمع: الجبهة الطلابية مستمرّة في جامعات أميركا

    رفض الابادة الصهيونية رغم الضغوط ومحاولات القمع: الجبهة الطلابية مستمرّة في جامعات أميركا   مدفوعة بمشاهد الموت والدمار الآتية من غزة والمنتشرة على ...