عبد الباري عطوان
نجد صُعوبةً كبيرةً جدًّا في الكِتابة عن العُدوان الإسرائيليّ الذي استهدف مطار حلب الدولي فجر اليوم الثلاثاء ممّا أدّى إلى خُروجه عن العمل، ووقف جميع الطّائرات التي تحمل مُساعدات إنسانيّة لضحايا الزلزال في مُختلف أنحاء شمال سورية، دون أيّ تمييزٍ بين المواقف السياسيّة والعقائديّة للمُستفيدين منها وهُم بالملايين.
الصّعوبة تكمن في تِكرار مِثل هذه الغارات الإسرائيليّة العُدوانيّة أوّلًا، وعدم التصدّي لها تَحَسُّبًا للنّتائج، ورفض روسيا إعطاء الضّوء الأخضر لسورية لاستِخدام منظومة صواريخ “إس 300” القادرة على إسقاط الطّائرات المُغيرة ثانيًا، وغيابٍ كاملٍ ومُتواطئ للمُجتمع الغربيّ الدوليّ تُجاه هذه الغارات ثالثًا.
لا نُجادل مُطلقًا بأنّ سورية تملك قُدرات صاروخيّة قادرة على الرّد في العُمُق الفِلسطيني المُحتل، وتُلحق أضرارًا كبيرةً، وهذا ما نتمنّاه ويتمنّاه كُل عربي شريف لوضعِ حَدٍّ لهذه الإهانات، ولكنّ الدّول، مثلما قال لنا مسؤولٌ سُوريٌّ كبير، لها حِساباتها وجدول أولويّات دقيق، والرّد سيأتي حتمًا، ولكن في التّوقيت المُناسب، وذكّرنا هذا المسؤول بأنّ سورية لا تخشى الحُروب، وخاضت أربعة منها ضدّ الاحتِلال، وتخوض الخامسة حاليًّا للحِفاظ على سِيادتها ووحدتها الترابيّة، التي تهدف المُؤامرة الحاليّة إلى تفتيتها، ولكنّ العواطف شيء، والحِسابات الدّقيقة شيءٌ آخَر.
***
نتّفق مع بعض هذه التّفسيرات التي تفضّل بها المسؤول السوري، ونعترف بأنّ أكثر من 300 غارة إسرائيليّة على سورية في السّنوات العشر الماضية على الأقل، جرى امتِصاصها من خلال اتّباع سياسة كظْم الغيظ، والعضّ على النّواجذ، ولم تُؤثّر هذه الغارات بشَكلٍ استراتيجيّ وجوديّ على الدّولة السوريّة، فعندما بدأت هذه الغارات كان أكثر من 80 بالمِئة من الأراضي السوريّة خارج سيادة الدّولة، وكانت المُعارضة المُسلّحة المدعومة بأكثر من 65 دولة، ومِئات المِليارات من الدّولارات النفطيّة العربيّة تقف على أبواب العاصمة دِمشق، والآن تغيّرت الأوضاع على الأرض، وفشلت المُؤامرة، وتشتّت شمْل المُشاركين فيها.
مُقارنة البعض المُنتقد من مُنطلق الحِرص على الكرامة العربيّة برد قِطاع غزّة، وفصائل المُقاومة فيه على أيّ عُدوان إسرائيلي بالصّواريخ مثلما حدث في معركة “سيف القدس” باعتباره اللّغة الوحيدة التي تُرهب العدوّ الإسرائيلي بانعِدام الرّد السوري على هذه “العُدوانات” مُقارنة صحيحة مبدئيًّا، ولكن ما ينطبق على الفصائل ربّما لا ينطبق على الدّول، وربّما يُفيد الإشارة إلى أن إيران الدّولة التي تملك مِئات الآلاف من الصّواريخ الدّقيقة، الباليستيّة، والمُجنّحة، والأسرع من الصّوت، علاوةً على 40 ألف طائرة مُسيّرة أثبتت فعاليّتها في حرب أوكرانيا، وأثارت قلق الولايات المتحدة ودولة الاحتِلال وما تزال، لم تتورّط في أيّ رد “انفعالي عاطفي” على اغتِيال عُلمائها، وقادتها (قاسم سليماني) وقصف مُنشآتها العسكريّة في أصفهان، يقودها إلى حربٍ شاملةٍ غير مُستعدّة بالكامِل لها، وقبل أن تتسلّح بالرّدع النووي.
دولة الاحتِلال الإسرائيلي التي تتآكل من الدّاخل، بسبب الانقسامات والحرب الأهليّة، وتعاظم المُقاومة الفِلسطينيّة المدعومة من محور المُقاومة، وسورية جُزءٌ أصيل فيه، تُقامر حُكومتها حاليًّا بمُحاولة إشعال فتيل حربٍ إقليميّة تَجُرّ أمريكا وحلف النّاتو للاشتِراك فيها على غِرار حرب العِراق، تُوحّد صُفوفها، وتُخرجها من أزماتها الداخليّة، وليس من الحكمة تسهيل مهمّتها، وتقديم الذّرائع لها، وهذا لا يعني عدم الاستِعداد الكامِل لخوضها دفاعًا مشروعًا عن النّفس بكُلّ الأسلحة.
المِنطقة الشّرق أوسطيّة، بشقّيها العربي والإسلامي (إيران)، تقف حاليًّا على حافّة حربٍ شِبه مُؤكّدة، سواءً بسبب اقتِراب إيران من تصنيع قنابل نوويّة، وزيادتها نسبة تخصيب اليورانيوم إلى ما يَقرُب من 90 بالمئة، اللّازمة لتحقيق هذا الهدف، أو بسبب تقاربها مع روسيا، وتزويدها بالأسلحة والذّخائر اللّازمة لتغيير قواعد الاشتِباك في الحرب الأوكرانيّة، مُضافًا إلى ذلك صُعود نجم كتائب المُقاومة الفِلسطينيّة بحُلّتها الثوريّة الجديدة، وعمليّاتها الجريئة التي تُوجع دولة الاحتِلال، وتُصيبها في مقتلٍ بضرب أمنها واستِقرارها، واستِنزاف اقتصادها ممّا أدّى إلى تسارعِ هُروب المُستوطنين والاستِثمارات بحثًا عن ملاذاتٍ آمنةٍ لأبنائهم وأحفادهم.
القادة العسكريّون الأمريكان الكِبار يتدفّقون على المِنطقة بكثافةٍ هذه الأيّام، ويزورون حُلفائهم في الدّول المُحيطة بفِلسطين المُحتلّة (الأردن ومِصر) والأُخرى المُحيطة بإيران استِعدادًا لهذه الحرب، فليس صُدفَةً أن يزور وزير الدّفاع الأمريكي لويد أوستن مِصر والأردن، ويتسلّل إلى العِراق لتفقّد قواعده العسكريّة في جميع هذه الدّول، وليس صُدفةً أيضًا، أن يزور الجِنرال مارك ميلي رئيس هيئة أركان الجُيوش الأمريكيّة عواصم الدّول نفسها، ويتسلّل أيضًا إلى شِمال شرق سورية للاطمئنان على حُلفائه الأكراد، والقاعدة الأمريكيّة هُناك (900 جندي) وتوزيع الأدوار وإعطاء التّعليمات، وقبلهما الجِنرال جيك سوليفان مُستشار الأمن القومي الأمريكي الذي زارَ المِنطقة أيضًا.
الرّد السوري على الغارات الإسرائيليّة قادمٌ وحتميّ، وربّما يكون أسرع ممّا يتوقّعه الكثيرون، سواءً في إطار أُحادي، أو في إطار حربٍ إقليميّة شرق أوسطيّة وشيكة، وربّما تكون زيارة الرئيس بشار الأسد القادمة إلى موسكو (15 آذار الحالي) حاسمة في هذا المِلف، خاصّةً أن الصّداقة الروسيّة الإسرائيليّة الحميمة تتآكل بسُرعةٍ هذه الأيّام في ظل تخلّي تل أبيب عن حِيادها المزعوم، وتزويدها ابن جلدتها زيلينسكي بالأسلحة المُتطوّرة، واقتراب زيارة بنيامين نِتنياهو لكييف مُتسَلِّلًا أيضًا مِثل الرئيس الأمريكي جو بايدن.
***
روسيا تحتاج دعم محور المُقاومة، وإيران بالذّات، ومن غير المُستَبعد أن يعود الرئيس الأسد من زيارة موسكو بضُوءٍ أخضر لاستِخدام منظومات صواريخ “إس 300” للتّصدّي للطّائرات الإسرائيليّة المُغيرة، أو حتّى صواريخ “إس 400” الأكثر تطوّرًا، وإذا لم تتحقّق هذه “الأُمنيات” فإن القرار الإيراني بتزويد سورية بنظام صواريخ “خرداد 15” المُضادّة للطّائرات (مُجهّز برادارات وبطاريّات صواريخ “صياد”)، سيُمكّن الدّفاعات الجويّة السوريّة بإسقاط الطّائرات الإسرائيليّة مثلما أسقطت طائرة “إف 16” عام 2018، بصواريخ “سام 200” المُطوّرة، ويأمَل الكثيرون داخل سورية وخارجها أن يتم التّعجيل بتنفيذ هذا القرار.
موازين القوى تتغيّر في مِنطقة الشّرق الأوسط، وفي غير صالح أمريكا و”إسرائيل”، والرّد على هذه العُدوانات الإسرائيليّة قادمٌ بإذن الله، والنّصر صبْر ساعة أو حتى ساعتين، فالصّبر الاستراتيجي هو سِلاحُ الحُكماء، فمَن كان يتوقّع أن تنتصر الدّولة السوريّة على المُؤامرة، ومَن كان يحلم بعودة الانتفاضة الفِلسطينيّة المُسلّحة وكتائبها بعد 30 عامًا من المُفاوضات المُذلّة… والأيّام بيننا.
سيرياهوم نيوز 4_راي اليوم