| محمد سيف الدين
تفاعلات الحرب في أوكرانيا أثّرت، خلال العام الماضي، في الأوضاع الداخلية في جورجيا، إذ توجد رغبة واضحة لدى جزء من الجورجيين في الانتقام من موسكو، مصحوبةً لدى هؤلاء أنفسهم بتعاطفٍ مع كييف.
لم تأتِ الأحداث الحالية التي تشهدها جورجيا مفاجئةً للمراقبين المتابعين لتطور المسار السياسي في البلاد منذ تفكك الاتحاد السوفياتي واستقلالها عنه في العام 1991. فقد شهدت جورجيا منذ ذلك الوقت تقلبات سياسية داخلية عديدة، كان لها على الدوام امتدادها الخارجي الفاعل.
والآن، تجري الأحداث التي أعقبت طرح قانون “العملاء الأجانب” على وقع أحداثٍ أكثر اشتعالاً تشهدها أوكرانيا. الدولتان مهمتان جداً بالنسبة إلى روسيا من ناحية، وللغرب من ناحيةٍ ثانية. وهاتان الناحيتان تمثلان الوجهتين المتجاذبتين في السياسة الخارجية الجورجية. وعلى وقع تفاعلاتهما تجري التقلبات السياسية الداخلية.
مع اشتداد وطيس الحرب في أوكرانيا ودخولها عامها الثاني، وصل الصراع بين روسيا والتحالف الغربي إلى مستوى غير مسبوق من التوتر، وتحوّل المشهد سريعاً خلال عامٍ واحدٍ من أزمةٍ بين موسكو وكييف إلى أزمةٍ عالمية تتداخل فيها أبعاد متنوعة، جيوسياسية، اقتصادية، ثقافية وحضارية، وذلك بعد أن بدأت كأزمةٍ أوكرانية داخلية في العام 2014.
“حلم جورجيا” بالاستقرار
شكلت الانتخابات البرلمانية الجورجية في تشرين الأول/أكتوبر عام 2012 منعطفاً مهماً في ما يتعلق باستقرار البلاد، فمنها انطلق حزب “حلم جورجيا” في قيادة البلاد نحو الاستقرار لعقد كاملٍ من الزمن، بعد هزةٍ عنيفة تعرضت لها في 7 آب/أغسطس العام 2008، حين اندلعت مواجهة محدودة بين موسكو وتبليسي على خلفية اجتياح الأخيرة إقليمَي أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا في العام نفسه.
وطرحت تلك الانتخابات تساؤلاتٍ مهمة حول قدرة القيادة الجديدة المنبثقة منها على السير في طريق الاستقرار الضيق من دون الانزلاق إلى إحدى الهوّتين، مواجهة روسيا أو التمرد على الغرب.
وعند فوز “حلم جورجيا” بأغلبية نيابية مريحة في تلك الانتخابات، كانت تحيط بتبليسي قضايا مهمة جداً منها ما يرتبط بالأمن في القوقاز، وأنابيب النفط الممتدة من وسط آسيا إلى أوروبا، وتوسع حلف شمال الأطلسي حول حدود روسيا، فضلاً عن التنافس بين روسيا التي كانت تسعى لاستعادة تحالفاتها في محيطها القريب، والولايات المتحدة التي لم تمسك عن تقديم الإغراءات لتحفيز الدول السوفياتية السابقة على السير في ركب سياساتها.
يومها، شكل ملف العلاقة مع موسكو ورقةً مهمة في الحملات الانتخابية لزعيمَي الموالاة والمعارضة، إذ اتهم زعيم ائتلاف المعارضة “حلم جورجيا” بيدزينا إيفانشفيلي، الرئيس ميخائيل ساكاشفيلي بإقحام البلاد في حرب مع روسيا أدت إلى خسارة إقليمَي أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا. ومن جهته، لم يتوقف ساكاشفيلي زعيم “الحركة الوطنية الموحدة” عن اتهام خصمه بجني ثروته من روسيا خلال التسعينيات من القرن الماضي، إلى حد اعتباره موالياً للروس.
وساكاشفيلي الذي أشعل المواجهة مع أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا، وتالياً مع روسيا، كان قد قاد “ثورة الورود” عام 2003 ضد الرئيس السابق إدوارد شيفرنادزه الذي كان يوصف بأنه مقرب من موسكو. وبعدها، في العام 2004، حصد ساكاشفيلي نسبة كبيرة من أصوات الناخبين أوصلته إلى الرئاسة، ثم تراجع تأييده في الانتخابات الرئاسية التالية عام 2008، قبل أن تحرقه الحرب مع روسيا في العام نفسه، وتنتج تغييراً في خيار الجورجيين لمصلحة “الحلم”.
أفرزت تلك الأحداث دروساً سياسية كبرى للجورجيين، تمثل أبرزها بعدم تلقيهم المساعدة التي كانت متوقعة من الأميركيين عند اجتياز الجيش الروسي الحدود، خصوصاً أن ذلك جرى بعد أسبوع واحدٍ من زيارة وزيرة الخارجية الأميركية، آنذاك، كوندليزا رايس إلى تبليسي. لقد تُرك الجيش الجورجي الضعيف لمواجهة الروس في خمسة أيام مضت بسرعة، تحققت خلالها إرادة موسكو بصورةٍ تامة على أرض الواقع، وفرضت خطوطها الحمر بعد ذلك.
كانت الحرب خاطفة إلى درجةٍ لم يتمكن خلالها ساكاشفيلي من هضم الأحداث، فعبّر عن خيبة أمله من الاستجابة الأميركية، واضطر إلى قبول الوساطة الأوروبية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، والتوصل بعد ذلك إلى اتفاق مع الروس أفضى إلى وقف إطلاق النار.
لقد حدث ذلك بعدما انتظر الروس لعقدين من الزمن من دون الاعتراف باستقلال الجمهوريتين، لكنهم بعد دخولهم إلى جورجيا أعلنوا عن ذلك الاعتراف، ووقعوا معاهداتٍ مع أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا تنص على توفير موسكو الحماية لهما في حال تعرض استقلالهما لأي انتهاك من قبل تبليسي. تزامن توقيت خطوة ساكاشفيلي حينها مع الاعتراف الغربي باستقلال إقليم كوسوفو في السنة نفسها من ناحية، ومع تخبط الإدارة الأميركية في وحول الأزمة المالية العالمية التي وصلت إلى ذروتها خلال عام انتخابات رئاسية أوصلت باراك أوباما إلى البيت الأبيض.
عقب هذه الدروس المستخلصة من حرب الأيام الخمسة، جرت انتخابات 2012 النيابية، وأعطى الجورجيون خيار “حلم جورجيا” برئاسة بيدزينا إيفانشفيلي 83 مقعداً من أصل 150 يشكلون مجموع أعضاء البرلمان الجورجي، فيما حصلت “الحركة الوطنية الموحدة” التي يقودها ساكاشفيلي على 67 مقعداً فقط.
أقفلت هذه النتائج مرحلةً من تاريخ جورجيا وفتحت أخرى، خرج بعدها ساكاشفيلي من رئاسة البلاد وغادرها إلى الخارج. في ما بعد، عمل مستشاراً للرئاسة الأوكرانية، وواجه عدة قضايا في جورجيا أوصلته إلى السجن في وقتٍ لاحق.
منذ ذلك الوقت، وعلى وقع بدء تسخين الموقف في أوكرانيا مع انقلاب عام 2014 على الرئيس السابق فيكتور يانوكوفيتش، وضم روسيا شبه جزيرة القرم، انتهج “حلم جورجيا” نهجاً حكيماً في التعاطي مع القوتين الكبيرتين اللتين تتجاذبان البلاد. فعلى الرغم من تبنيه القيم الغربية والتناغم التام مع الاتحاد الأوروبي، ومحاوله الانضمام إليه، حافظ الحزب الحاكم على علاقات ودية مع موسكو، وسعى إلى تطمينها بسياسةٍ خارجيةٍ غير منحازة ضدها، وسياسةٍ داخليةٍ حافظت على استقلال أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا. وموسكو بدورها، لم تكن تريد من تبليسي أكثر من ذلك.
بعد فوزه بالانتخابات، قال إيفانشفيلي إنه سيسعى لبناء علاقات طبيعية مع روسيا، بعد أن انقطعت العلاقات بين البلدين بعد أزمة 2008، وكانت لغته الإيجابية تجاهها واضحةً من خلال تغليب الدبلوماسية في التعاطي مع مسألتَي الجمهوريتين، إذ أكد أنه “إذا أردنا استعادة وحدة أراضي جورجيا، واستعادة أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا، مع الحفاظ على علاقات ودية مع موسكو، فإن هذا سيكون هدفاً على المدى المتوسط، لأن ذلك لن يتم بسرعة وبسهولة”.
رسالة إيفانشفيلي إلى موسكو أتت بموازاة رسالة أخرى وجّهها إلى الغرب، حين أعلن (في التصريح نفسه) أنه يعتزم بدء زياراته الخارجية بزيارة واشنطن، وأن الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي يشكلان أهدافاً استراتيجية لبلاده.
وبقراءة السنوات العشر الماضية، منذ ذلك الوقت، يتبيّن أن “حلم جورجيا” تمكن من الإمساك بالعصا من المنتصف، وأبعد البلاد عن مخاطر كبيرة كانت يمكن أن تنفجر في طريقها، وذلك على عكس ما قام به القادة في كييف خلال المرحلة نفسها. ونتائج الخيارين تبدو واضحة للعيان من خلال المقارنة بين البلدين.
انزلاق إلى إحدى الهوتين؟
لا شك في أن تفاعلات الحرب في أوكرانيا أثرت، خلال العام الماضي، في الأوضاع الداخلية في جورجيا. هناك رغبة واضحة لدى جزء من الجورجيين في الانتقام من موسكو، مصحوبة لدى هؤلاء أنفسهم بتعاطفٍ مع كييف، تم التعبير عنه من خلال انضمام متطوعين جورجيين إلى “فيلق الأجانب” الذي يقاتل إلى جانب القوات الأوكرانية، بالإضافة إلى مواقف علنية يتم التعبير عنها يومياً تخدم الفكرة نفسها. وفي مقابل ذلك، يتمسك قسمٌ آخر من الشعب الجورجي بالاستقرار الذي تنعم به البلاد منذ تسوية علاقاتها بموسكو في ظل الحزب الحاكم اليوم.
هذا الانقسام يعبر عن حالة جورجيا اليوم، كما يعبر عن تنازع بين رؤيتين إحداهما تفضل الاستفادة من انشغال موسكو بالحرب الأوكرانية لإحداث تحولٍ نحو الغرب، وتسريع المسار نحو الانضمام إلى العالم الغربي، خصوصاً أن الولايات المتحدة الأميركية تبحث عن دولةٍ تتبرع بزيادة الضغوط على موسكو. بينما تغلب الرؤية الأخرى الخيار الحالي المتمثل بالحياد وعدم الانضمام إلى العقوبات على روسيا، وعدم الانخراط في المطالبات المعممة في التحالف الغربي بضرورة خروج روسيا من أوكرانيا.
وبين هذا وذاك، تنشط الولايات المتحدة في تحريض تبليسي على تغليب الخيار الأول، وتحضيرها لأن تكون ساحة استنزافٍ أخرى لموسكو، إذ ترتبط هذه الأخيرة بمعاهدات دفاعية مع أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا تجعل من تدخل موسكو العسكري لحمايتهما خياراً اضطرارياً لبوتين. تؤيد هذا الطرح معطيات لافتة، منها تزامن بدء تسخين الساحة الأوكرانية خلال العام 2021 وتجهيز الموقف الذي أجبر بوتين على إطلاق العملية العسكرية، مع عودة ساكاشفيلي إلى جورجيا في العام نفسه، ودخوله السجن، وتفعيل النشاط السياسي لمناصريه إلى حد إعادة طرحه كمرشحٍ واقعي للرئاسة.
لكن الأزمة في أوكرانيا أيضاً تحمل معها دروساً أكثر خطورة من تلك التي حملتها الأزمة الجورجية في 2008. فخيار القيادة في كييف، ومن دون محاكمته، أدى إلى دمار واسع النطاق في البلاد، وخسائر بمئات مليارات الدولارات، وخسارة أجزاء واسعة من الأراضي التي لا يبدو حتى الآن أنها قابلةٌ للاسترجاع، بالإضافة إلى اتساع الهوة داخل المجتمع الأوكراني نفسه، وخسارة كييف لاستقلالها السياسي في علاقتها مع الحلفاء الغربيين، قبل خسارة سيادتها على التراب الوطني.
هذه الصورة بشموليتها، تبرز الآن أمام رئيسة الجمهورية الحالية سالومي زورابيشفيلي، التي تزور الولايات المتحدة في الوقت الذي تندلع فيه الاحتجاجات في البلاد على قانون “العملاء الأجانب”، والذي أصبح يوصف بـ”القانون الروسي” من قبل مؤيدي الغرب في جورجيا، على الرغم من أن مضامينه مماثلة لقوانين أميركية وأوروبية عديدة.
تطمح زورابيشفيلي، التي كانت دبلوماسية فرنسية سابقة، إلى أن تدخل بلادها الاتحاد الأوروبي، وهي توائم سياساتها بدقة مع سياسات بروكسل، لكنها في الوقت نفسه حافظت -حتى الآن-على موقفها المحايد من الحرب الأوكرانية، ورفضت إرسال الأسلحة أو فرض العقوبات على موسكو.
لكن استمرار التظاهرات في تبليسي، على الرغم من سحب قانون “العملاء الأجانب” الذي شكل شرارتها، يؤشر إلى أن المطلوب في جورجيا ليس سحب فتيل الانفجار، بل إشعاله. وهذا ما يفسر استمرار التظاهرات، واكتسابها عناوين أكثر هجومية من مجرد إلغاء قانونٍ مقترح، والمناداة بإسقاط الحكومة.
اللافت في الأمر أن الحكومة الجورجية حاولت الاستعانة بالغرب؛ لإطفاء شرارة أزمة يمكن أن تحوّل جورجيا إلى أوكرانيا أخرى، ووعدت بإرسال نص مشروع القانون إلى الاتحاد الأوروبي لدراسته، لكن الرد الغربي أتى معاكساً لرغبتها، حيث واصل كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي انتقاد القانون المسحوب، ودعوا السلطات الجورجية إلى احترام “الاحتجاج السلمي”، على الرغم من اقتحام المتظاهرين البرلمان واستخدامهم زجاجات المولوتوف.
في المحصلة، يبدو “حلم جورجيا” في مأزقٍ حقيقي الآن. فهو على الرغم من كونه لا يزال ممسكاً بزمام الأمور، وعدم خروج الاحتجاجات عن السيطرة، فإنه قد يضطر إلى إقالة الحكومة والدعوة إلى انتخابات مبكرة، في حال لم يتمكن من استعادة الاستقرار بسرعة. الأمر الذي قد يفتح على جورجيا أبواب الجحيم، خصوصاً إذا وصل إلى السلطة خيار يدعو إلى اقتحام أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا.
لقد أدارت تبليسي سياسةً متوازنة بين روسيا والغرب لعشر سنوات، لكن السنة الأخيرة ضيقت هوامش المناورة على كل الدول التي كانت تسير بين منزلقين قاتلين. رغم ذلك، يبقى قرار النجاة ممكناً إذا اختاره الجورجيون.
سيرياهوم نيوز3 – الميادين