| غفران مصطفى
باب توما، القيمرية، شارع الأمين، باب شرقي، طريق مدحت باشا، البزورية، سوق الحميدية، مقام السيدة رقية، الجامع الأموي… كلها تفرّعات من مشارب حياتك ونمطك وفرادتك. هي هكذا، تماماً مثل كَرَم سُفرة الأمّ في العيد، تقدّم خيرها إلى المارة.
لستَ زائراً في الشام. ولا حتى الشام مجرد مكان يقصده توّاقو الجمال. الشام القديمة احتواء، بكامل امتلاء الكلمة. ستعود منها ممتلئاً، وستفهم بعد خروجك ما الذي كان ينقص روحك بالضبط.
كانت زياراتي دمشق تقتصر على أماكن محدَّدة، جلّها بعيد عن حارات الشام القديمة. قصدت الأخيرة اليوم للمرة الأولى، ورجعت بسؤال لم أفكّر في أن مكاناً بهذا الأنس كله سيأتي به إلى رأسي: ما البيت؟ وأظن أنني وجدت أجوبته الشافية هناك. البيت هو ألا تبرّر أي شيء؛ أن تحتوي روحُك روحَه. وعلى الرغم من أنها الزيارة الأولى، فإن في المكان عتاباً؛ شعوراً يُشبه الاشتياق والبُعد والسؤال، ثم اللقاء. كأن الشام تعرفك جيداً، فتعرف تماماً ما تقدّمه إليك، وما تشاركك فيه، وما تُمْليه على قلبك.
هي هكذا، تماماً مثل كَرَم سُفرة الأمّ في العيد، تقدّم خيرها إلى المارة، بعمارتها، وطرقاتها المتقطعة، وجدرانها التي تعلوها نوافذ البيوت الدمشقية العربية القديمة، بأبوابها، بأسماء حاراتها، بمقاهيها، بأسواقها، بتذكاراتها، بزخارفها، برسّاميها، بصَلاتها، بمآذنها، بأجراس كنائسها، بالناس في كل مكان. كل شيء فيها مثل بيت أهلك، فلن تستغرب الرائحة، ولا مذاق الطعام، ولا النّوم الهانئ.
باب توما، القيمرية، شارع الأمين، باب شرقي، طريق مدحت باشا، البزورية، سوق الحميدية، مقام السيدة رقية، الجامع الأموي… كلها تفرّعات من مشارب حياتك ونمطك وفرادتك. مثلما تفعل الشمس بأشعتها المتفرّعة، تماماً تصنع الشام؛ تعكس تفرعات ضوئك وروحك ومحبتك، بحاراتها وشوارعها وأسواقها وأسمائها والأنس الكامن فيها.
ستأتيك الشام بالأصدقاء. تُحبّ مرورك مستئنساً بحديث ما عن انطباعاتك أو عن حياتك. سيُنصت إليك المحبّون وستؤمَّن لك أجواء ذلك. جرّب المشي فيها صباحاً، فسيفتح قلبك أبوابه ونوافذه، وتتذكّر أنك في ألف نعمة، مع كل ما يحيط بك من أمن وفرصة إيجاد ما يركن إليه قلقك، ويهدأ. ثم جرّب ذلك في المساء، فسيطول ليلها بينما أنت تمشي ويحضر شوقك. لن تفارقك حتى تشفيك، فتخرج مُطمئنّاً.
بيوت الشام القديمة هي البيوت التراثية التي تشتهر بوسعها وزَرعها ورائحة ثمارها ووردها والبحرة التي تتوسط كلاً منها، وغرفها المنقسمة على طابقين، والديوان والليوان والمشرقة. لكنها مختبئة خلف أبواب خشبية صغيرة في الحارات الضيقة. وما إن يُفتح باب حتى تدخل إلى بيوتها، كأنها وكأنك في عالم داخلي مُوازٍ.
البيوت لأهلها، وهم، في أغلبيتهم، لا يزالون متمسكين بها، ويرفضون تحويلها إلى فنادق أو مطاعم. يحافظون على أصغر تفصيل فيها. يسقون زرعها باستمرار. يكنسون أرضها من ورق الشجر. يرمون الماء فيلتمع البلاط المزركش كأنه وجه من وجوه الطهارة.
صحيح أن هذه البيوت لأهلها، لكن من يمنع ألفتها؟ ستتملَّكك ألفتها ويصير كل بيت فيها اسمه بيتك، ولن تغادره كزائر، بل بنيّة العودة القريبة. ستوصي أهلها بأن يحافظوا عليها، كأنّ لك “مَونة” عليهم. ثم استمع إلى ما يسمونه “النارنج”، بلهجة أهلها. أليست بسيطة في اللفظ وقريبة إلى السمع، الأمر الذي دفع كثيرين إلى أن يطلقوا اسمها على أسماء محالّهم ومقاهيهم. والنارنج هو البرتقال المرّ.
مخارج الشام كثيرة، لكنك في لحظات ستتمهّل لأن فيها بعض الألم. كثيرة هموم الناس. لا يسير اليوم بصورة اعتيادية، لأن أحلاماً كثيرة لا تجد منافذها. وعلى الرغم من ذلك، فإنك، إن خرجت، ستحمل في روحك خيرها. الشام لا تترك أهلها. هي تصنع السعادة لمن يبحث عنها، توفّر لك الطعام والحلوى والقهوة والمشي المجّاني. السعادة جزء من الحياة اليومية؛ جزء مما تمليه وجوه الناس، الذين يقفون خلف رزقهم وينتظرون. في الشام سترضى.
سيرياهوم نيوز3 – الميادين