رأي أمل أبو زيد
يوم تحدّث فوكوياما، منذ ثلاثين سنة، نيابة عن العقل السياسي لدولة واشنطن العميقة، عن مفهوم «نهاية التاريخ»، لم يكن يقصد مجرد نقاش عقلاني سلمي هادئ بين نهجين فكريين فلسفيين وحسب. ذلك أن الأحداث المتلاحقة على مستوى العالم لم تتأخّر في التأكيد بشكل يومي أن المقصود هو انتصار معسكر على آخر، وسيطرة كاملة لهذا المعسكر على العالم، جيوسياسياً واقتصادياً وعسكرياً وثقافياً وتكنولوجياً. وهو المشهد الذي وصفه سيد البيت الأبيض يومها بـ«النظام العالمي الجديد».
هذا النظام، كان، في الفكرة والواقع، نظاماً إمبراطورياً، إذ يكفي للدلالة على ذلك أن رؤية فوكوياما لم تكن إلّا استلهاماً لزمن نابليون بعد معركة إيينا. غير أن المشكلة بدأت عندما راح سيّد هذا العالم الجديد يتصرّف بشكل لا ينسجم مع المسؤولية العالمية الجديدة. وعلى مدى نحو ربع قرن تقريباً، سُجِّل عدم احترام لمبادئ الشرعية الدولية، لا بل خروج صريح عن أطر مؤسّساتها، وعدم احترام لمبدأ سياسة الدول ووحدة أراضيها، وصولاً إلى شنّ حروب من خارج الشرعية الدولية، استهدفت دولاً وسلامة أراضيها ووحدتها وشعوبها.
ad
هذه السلوكيات السياسية والعسكرية، ترافقت مع سلوكيات مماثلة على الصعيد الاقتصادي والتنموي والتجاري على مستوى العالم، بما كرّس نهج الهيمنة وسياسات النفوذ العالمية، فضلاً عن محاولة تركيز ثروات الأرض في قبضة طرف واحد، ما فاقم الفجوة التنموية بين المناطق والبلدان والقارات، وأدّى إلى زيادة مشاعر الحرمان والغُبن لدى أكثرية شعوب الأرض.
بعد عشرين سنة من هذه السياسات، انطلقت في الشرق الأوسط، بمصادفة غريبة وبشكل متزامن، عاصفة ما سُمّي «الربيع العربي»، الذي ظهر فعلياً أنه كان محاولة لإسقاط كل النظام القائم وتبديل كل دولة بأنظمة جديدة قائمة على شرعية دينية ما. حتى أن الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، كان صريحاً أكثر من اللزوم في كلامه عن شعوب الشرق الأوسط في خطابه الشهير في جامعة القاهرة عام 2009، وبعدها في «عقيدة أوباما»، وصولاً إلى الصدفة الأكثر غرابة في صدور الأمر الرئاسي عنه في آب 2010 والذي يتكلم صراحة عن تغيير مشهد الشرق الأوسط قبل أسابيع قليلة من اندلاع أولى عواصف الربيع العربي بدءاً من تونس في كانون الأول من العام 2010.
ad
في الجهة المقابلة من الشرق الأوسط، بدأت السياسات الأميركية تركّز على عنوان واضح: نحن ذاهبون إلى إعادة تشكيل نظام سيطرتنا العالمي الجديد باحتواء الصين، وبالتالي على الدول الأخرى، من أوروبا كلها، وروسيا وتركيا، وصولاً إلى جنوب شرقي آسيا والدول المشاطئة لبحر الصين، أن تكون مجرّد أحجار قرميد في أيدينا لبناء السور الأميركي العظيم حول التنين الصيني لترويضه وإخضاعه… وكل الباقي تفاصيل.
أمام هذا الواقع، وبعدما تأكّدت روسيا من دوافع السياسات الأميركية ومساراتها، خصوصاً في ما يتعلق بما تمّ تحضيره ضدّها انطلاقاً من دولة أوكرانيا، بدأت روسيا العمل مع شركائها وحلفائها باتجاه تشكّل نظام عالمي جديد للخروج من الزعامة الأحادية والدفع باتجاه عالم متعدّد الأقطاب. وما التطورات العسكرية الجارية في أوكرانيا إلّا دليل واضح على عملية الانتقال إلى معادلة دولية مختلفة أدّت إلى خلط أوراق العلاقات التجارية والتحالفات الدولية وإلى قيام سياسات ومحاور اقتصادية ومالية جديدة من شأنها أن تخلص إلى توازن قوى إقليمي ودولي، والأخذ في الاعتبار المصالح المشروعة لكل اللاعبين على المسرح الدولي، وتخلق قواعد جديدة لحل الصراعات والنزاعات الدولية.
ad
إنّ الأزمة الحالية مع أوكرانيا، ومع المعسكر الغربي بأكمله، هي فرصة نادرة وسانحة وفريدة لكي يتمكّن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، من إثبات حضوره على الساحة الدولية
إنّ الأزمة الحالية مع أوكرانيا، ومع المعسكر الغربي بأكمله، هي فرصة نادرة وسانحة وفريدة لكي يتمكّن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، من إثبات حضوره على الساحة الدولية وسط التصاعد المتنامي للقوة الصينية، وهيمنة أميركا على المشهد الحالي، مع إدراكه بأن هذا العالم الجديد لديه سمات وعلامات فارقة، أهمها:
-أولاً: تحوّل روسيا نحو الشرق. هذا التحوّل لم يأخذ أشكاله الواضحة إلا منذ عشر سنوات تقريباً، وأَخَذَ البُعدين الاقتصادي والجيوسياسي، بعد إعادة دمج شبه جزيرة القرم، ما وضع حداً، على الأقل في ذلك الوقت، لتوسيع التحالفات الغربية، مثل حلف شمال الأطلسي، في المناطق التي تعتبرها روسيا حيوية لأمنها القومي. وترافق تحوّل روسيا نحو الشرق، وتحوّل الصين غرباً نحو أوروبا من خلال «مبادرة الحزام وطريق الحرير»، مع تغيير أكثر أهمية في نظام العلاقات الدولية بأكمله، أي نهاية هيمنة الغرب التي امتدّت لفترة 500 عام بما في ذلك النظام الليبرالي المهيمن في السنوات السبعين الماضية.
ad
-ثانياً: الكثير من المتغيّرات ستحدّد شكل العالم الجديد. قد نشهد نشوء أوراسيا الكبرى. وهذا المفهوم وُلد في روسيا وشمل منذ البداية أوروبا أو جزءاً منها جغرافياً. وقد تصبح أوراسيا مركز الاقتصاد والسياسة والثقافة، وليس أوروبا كما كانت الحال خلال الخمسة قرون الماضية.
-ثالثاً: إن استراتيجية «التوجّه شرقاً» التي اعتمدتها موسكو رداً على القيود الغربية غير المسبوقة ومحاولات عزلها، دفعت في اتجاه علاقات شراكة استراتيجية روسية-صينية، وليس نموذج «تحالف». وهذا يُسهم في استقرار العلاقات بينهما ويعطيهما مساحة كاملة من التعاون من دون أن يلزم أي جانب بإدخال تعديلات كبرى على سياسته.
-رابعاً: إنّ الحضور الروسي في الشرق الأوسط، وتحديداً منذ تواجدها في سوريا عام 2015، أفسح لها المجال في التقدّم على واجهة التأثير الدولي في المنطقة، وتطوير حضورها ودورها وعلاقاتها، ولا سيما مع دول الخليج التي أطلقت معها حواراً استراتيجياً ومبادرة لضمان الأمن في الخليج. فإلى جانب المجابهة الأميركية-الإيرانية، والسعودية-الإيرانية، هناك العداء الإيراني-الإسرائيلي، والصراع السني-الشيعي، والصراع العربي-الإسرائيلي، إذ إن روسيا تبقى اللاعب الوحيد القادر على مخاطبة الجميع والدفع في اتجاه حلّ للنزاعات الإقليمية.
ad
وبالفعل، هناك توجّه روسي جديد في منطقة الشرق الأوسط يهدف إلى تأمين النموّ الاقتصادي المتسارع لها، وهي مدركة لفوائد إعادة تفعيل العلاقات التاريخية مع عدد من دول المنطقة وتطويرها، وأيضاً لضرورة توظيف كل قدراتها بهدف دعم تحركاتها وتحقيق أهدافها، ومن أهمها وأبرزها ديبلوماسية القمة والوساطة، مع اختلاف فاعليتها من قضية إلى أخرى.
-خامساً: الملف النووي الإيراني الذي كان واحداً من أبرز الضحايا السياسية للحرب في أوكرانيا. فقد بدا واضحاً أن فرصة إحياء الاتفاق النووي التي لاحت في عام 2021، تبدّدت في عام 2022 بسبب الحرب وتأثيرها على مسألتين؛ الأولى تتعلق بالتغيير الحاصل في موقف إيران التي لم تعد على عجلة من أمرها بعدما تغيرت المعطيات الجيوسياسية والاقتصادية بفعل حرب أوكرانيا. فإيران تبيع نفطها وبرنامجها النووي يتقدّم، في حين أن قدرة أميركا والدول الغربية على استخدام السلاح الاقتصادي تتراجع. والثانية، تتعلق بالأزمة المستجدة والمتفاقمة بين إيران والتحالف الأميركي-الأوروبي الذي يسعى لمعاقبة إيران بسبب دعمها لروسيا في الحرب وتزويدها بمسيّرات وصواريخ، بحسب زعمهم، وبسبب إسهامها في تعزيز المحور الشرقي وبناء النظام العالمي الجديد عبر المشاغبة على أميركا وسياساتها في المنطقة.
ad
-سادساً: دور تركيا المتعاظم في المنطقة، إذ إن الرئيس التركي رجب طيب إردوغان كان أول وأكبر المستفيدين من الحرب التي أعطته دوراً محورياً هو دور الوسيط بين روسيا وأوكرانيا، وبين روسيا والولايات المتحدة بدرجة أقل، مثبتاً قدرة فائقة على السير بين توازناتٍ وتناقضاتٍ دقيقة، إضافة إلى «تصفير» مشكلاته مع دول المنطقة، وتهدئة الحرارة في العلاقات التركية مع دول الخليج وأيضاً مع إسرائيل.
-سابعاً: دور السعودية المتنامي في المنطقة، إذ أدرك ولي العهد السعودي محمد بن سلمان كيف يستغلّ الحرب والمتغيّرات الجيوسياسية والاقتصادية في العالم ليحوّلها إلى فرصة لإظهار أهمية السعودية ومكانتها وشخصيتها، ودفع الولايات المتحدة على الأخذ في الاعتبار مصالح السعودية السياسية والاقتصادية، بعدما اتّسمت السياسة الأميركية بالتخبّط والتردّد وعدم الوضوح.
ويرى ابن سلمان أن الحرب في أوكرانيا هي فرصة لتصحيح المسار ولا يجوز تفويتها. وبدافع التحوّط الاستراتيجي هو ينسج منذ فترة انزياحاً جدياً نحو تنويع الشراكات مع الصين وروسيا والهند، ويعتبر أن الاصطفاف الدولي المطلوب هو استحقاق كبير يجب تحويله إلى فرصة وجعل الثمن كبيراً. ومن غير الجائز، برأيه، التسرّع والهرولة المجانية في اتجاه الغرب، خصوصاً أن النفط لا يزال قيمة أساسية في المعادلات التجارية والسياسية. ثم إنّ الحرب نفسها خلقت مساراً مختلفاً عن المرسوم في عالم الطاقة، ورفعت الأسعار وعادت بالفائدة على الخزينة السعودية.
ad
بعد مرور سنة على معارك أوكرانيا، تجد أوروبا صعوبة في متابعة مسارها، لأنها أصبحت تعاني من الانكماش الاقتصادي والتجاري والموجة التضخمية الناتجة من ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء، وهي تقف عاجزة عن القيام بأي خطوة إيجابية تجاه روسيا، ما أدّى إلى هبوط سعر اليورو والجنيه الاسترليني وإلى إقفال شركات وهجرة الاستثمارات.
ويتعيّن على أوروبا أن تقرّر إذا كانت تريد القيام بدور نشط في بناء شراكة جديدة، أم أن هذه الشراكة ستُبنى من دونها، ثم ضدّها، ومن دون مراعاة مصالحها. واستطراداً، على أوروبا التوقّف عن الانزلاق أكثر في الأزمة الحضارية والتخلّي عن محاولات الاتّحاد ضدّ الأعداء الوهميين مثل روسيا أو الصين.
في عام 1991، انتهت حقبة الحرب الباردة التي بدأت بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وثمّة بوادر واضحة تؤشّر إلى احتمال بدء مرحلة جديدة وبناء نظام عالمي جديد انطلاقاً مما يجري في أوكرانيا، لتصبح عام 2022 بداية حقبة جديدة وخطّاً زمنياً فاصلاً بين مرحلتين وعالمين.
ad
إنّ كل أزمة تحمل في طياتها فرصة للحلّ. وهذه الأزمة الغربية الحالية في إدارة العالم التي نعيشها اليوم، وخصوصاً في الفوضى التي خلّفتها على مستوى أوروبا والشرق الأوسط، حملت فرصة واضحة؛ وهي التي تجسّدت في خروج كل القوى الأساسية على الهيمنة الأميركية وبروز اتجاه جديد لديها لإعادة تشكيل نظام منطقتها بشكل أكثر استقلالية وتوازناً. وهو ما نشهده اليوم في العلاقات التركية-الأميركية وحتى السعودية-الأميركية، وصولاً إلى الكباش الكبير بين واشنطن وطهران وموسكو. نظام جديد يجب أن يقوم على أسس واضحة، أهمها؛ أولاً، إعادة الأهمية لمفهوم الاستقرار في هذه المنطقة الحيوية للعالم. وثانياً، إعادة الأولوية لضرورة اعتماد سياسات تنموية صحيحة تستثمر ثروات هذه المنطقة لمصلحة مجتمعاتها وشعوبها. وهذا يقتضي قيام أُطر تعاون بين هذه الدول بعيدة كلياً عن مفاهيم الهيمنة والنفوذ والتدخّل في الدول.
ad
أخيراً، ومنذ عشرة أعوام، بدت واشنطن وكأنها تقول لعالمنا الممتدّ على ضفّتي المتوسط، وصولاً إلى أوروبا والشرق الأوسط الواسع: أنتم جسرٌ، وظيفته الوحيدة هي وصولنا إلى الصين… ولا وظيفة أو قيمة أخرى لكم. وفيما هذا العالم يحاول أن يقول لواشنطن: نحن قلب العالم، في مصادر طاقته وممرّات تجارته وحركة شعوبه وسكانه وهجراته ولا يمكن للأطراف أن تقتل القلب أو تقتطعه من جسدها، وتتوهّم أنها يمكن أن تظلّ على قيد الحياة.
هذا هو جوهر الصراع اليوم… وعلى نتيجته يتوقف مصير كل العالم لعقود كثيرة مقبلة.
سيرياهوم نيوز1-الاخبار اللبنانية