| محمد سيف الدين
تخلّت الصين عن نهجها المتحفّظ في السياسة الخارجية، وبدأت بإدارة سياسةٍ نشطة هجومياً، لكن رصينة في مقاربتها للتدخّلات.
اعتمدت الاستراتيجية الأميركية أساليب متنوّعة مع الدول المتمردة على هيمنتها العالمية، أو مع تلك التي تنافسها. هي تمتلك مروحةً واسعة من الخيارات، ومرونةً فائقة في تنويع مقارباتها لكل حدثٍ ومرحلة، وقدرةً مؤكدة على التصرف بالأولويات على حسب الحاجة إليها.
فتارةً يكون الاحتواء بالقوة الناعمة هو الخيار، وتارةً أخرى يكون الحلّ بتحريك فوالق السياسة الداخلية لدى الخصم وباللعب على الانقسامات السياسية بين مكوّناته، وفي أحيان أخرى قد يستدعي الأمر افتعال أزمات مالية واقتصادية للضغط على أشخاص الحكم أو تحريك منظمات حقوقية وقيم معمّمة ومعولمة على ألسنة صانعي رأي محليين، تتم مواكبتهم بحملاتٍ إعلامية ترقى لتصبح عالمية عند الحاجة، وتبرز لأجلها رموزٌ وأشخاص وسرديات تعزّز أحقيتهم في عيون شعبهم، في مقابل السلطة التي تتم شيطنتها في السياق نفسه.
وحين لا ينجح أي من تلك الأساليب، يمكن أن تصل المقاربة إلى حد استخدام القوة العسكرية المباشرة، أو الحرب بالوكالة، من أجل تحقيق هذا الهدف.
كل هذه الأساليب شكّلت على الدوام تكتيكاتٍ معتادة للاستراتيجية الأميركية في تطويع الإرادات، والهدف الدائم لها لم يثبت أبداً أن كان مساعدة العالم على التحوّل الديمقراطي، بل الحفاظ على الهيمنة على النظام الدولي، وكل حالةٍ من حالات التمرّد على هذه الهيمنة كانت نموذجاً لتجريب تكتيكٍ أو مجموعة تكتيكات من التي ذكرناها.
في السنوات الأخيرة درجت العقوبات كأحد أكثر التكتيكات الأميركية تفضيلاً، بعد أن تراجع وهج الثورات الملوّنة وأصبحت شيفراتها مقروءةً بوضوح بعد أحداث العالم العربي طوال العقد الثاني من الألفية. فالعقوبات آليةٌ معقّدة ومرنة في الآن نفسه، تسمح بإطلاق تفاعلاتٍ محلية وخارجية تسير بتلقائية بنّاءة بالنسبة لمن يريد زيادة الضغوط واستثمارها سياسياً.
هي من جانبٍ تجعل الخصم يعاني على مستوى صناعة القرار، فتضعه أمام ضروراتٍ ملحة واستحقاقاتٍ داهمة تصل في حالاتها القصوى لأن تصبح يومية، فيما تضعه من ناحيةٍ ثانية في مواجهة انعكاسات هذه الظروف على علاقته بشعبه وباللاعبين السياسيين المحليين، وتحد من خياراته إلى الحدود الدنيا، تمهيداً للقضاء عليه سياسياً، أو تطويعه.
وفي جانبٍ موازٍ لتلك التداعيات، تؤدي العقوبات في نموذجها المثالي إلى عزل الخصم عن بقية العالم، من خلال وصمه دولياً، ومنع العالم من التعاون معه، الأمر الذي يتركه خارج نادي الدول الفاعلة، خصوصاً إذا ما استخدمت تهديدات للدول الأخرى لمنعها من التعامل مع الدولة المعاقبة.
عملياً، تخرج العقوبات الأميركية الدول من النظام العالمي، وتدخلها إليه. لها نجاحاتٌ ملموسة في هذا الإطار، لكن أيضاً، هناك حالات فشلٍ صارخة بدأت تبرز الآن.
ما أريد له أن يحدث وما يحدث فعلاً
إن المتغيّر الأكبر في الأحداث العالمية الآن هو أن هذا النظام العالمي تحديداً هو موضوع الصراع، وكل الأحداث تجري حوله. فعند بداية الحرب في أوكرانيا، تم تفعيل الطاقة الغربية القصوى من آليات العزل والحصار والعقوبات على روسيا. الهدف كان استخدام أقصى طاقة ممكنة لتعطيل تحوّلٍ تاريخي يمكن لهذه المواجهة أن تحدثه، لكن تحت سقف المواجهة المباشرة مع موسكو.
يمكن في هذا السياق تسجيل كل أنواع الأساليب المذكورة أعلاه، إلى درجة استهداف الرموز الثقافية والأدبية والمعالم الطبيعية والرياضة والفن والطلاب وكل ما يمكن أن يمت بصلة إلى الحضارة الروسية.
ذلك أن المواجهة التي انفجرت لم تكن مواجهة عسكرية أو سياسية بين بلدين أو كتلتين. لقد كانت منذ اللحظة الأولى، وقبلها، مواجهةً حضاريةً يعاد بموجبها ترتيب الحضارات المسيطرة في الفضاء الدولي، وتنتظم على أساسها القوانين الحاكمة للنظام العالمي في العقود المقبلة. إنها مواجهة تجريبية استباقية لصراع شامل على قيادة القرن الحالي.
بعد سنة، يمكن القول إن المواجهة بصورتها الشاملة لم تحقّق أهداف الولايات المتحدة الأكثر أهمية، فيما حقّقت بعض الأهداف الأساسية التي يمكن تسجيلها في ميزان الخسائر الروسية من ناحية، وفي ميزان الخسائر الأوروبية من المواجهة في الوقت نفسه، وهي بالتحديد تتمحور حول استبدال الاعتماد على الغاز الروسي بالاعتماد على الغاز الأميركي والنرويجي ومن مصادر أخرى، وتفجير أنابيب “نورد ستريم 2” ومعها العلاقات الروسية-الأوروبية. لكن الأهداف الأميركية التي فشلت، ارتدّت إلى عكس المراد منها، وبصورةٍ أكثر خطورة مما يمكن تصوّره.
لقد حملت المقاربة الأميركية للمواجهة مع روسيا مخاوف كبرى مما يمكن لواشنطن أن تذهب إليه في حالاتٍ مماثلة مع دولٍ أخرى. وهذا ما يبدو أنه أحدث ردود فعل عكسية عند قوى محايدة في هذا الصراع، أو مستهدفة به، أو حتى بين حلفاء واشنطن أنفسهم.
فمصادرة الأصول الروسية وتجميد رؤوس الأموال ومعاقبة الشركات والكيانات والأفراد الروس، أدى إلى إخافة الدول التي استثمرت طويلاً في العالم الغربي. السحوبات الصينية اليومية من البنوك الغربية، والتخلي عن السندات والأصول الغربية تعتبر أدلةً عملية على ذلك.
إضافة إلى ذلك، أدى فرض سقوف لأسعار موارد الطاقة الروسية إلى مخاوف مماثلة عند مصدّري الطاقة حول العالم. حيث أعطى هذا النهج رسائل سلبية لجميع منتجي الطاقة بأن استثماراتهم وعقودهم مع العالم الغربي، بل ودائعهم في الغرب، كلها موقوتة ومشروطة بالالتزام السياسي مع الهيمنة الأميركية على العالم. وأنها يمكن أن تصبح مهددة في لحظة فقط.
النتيجة الكبرى لهذا النسق تبرز الآن بتراجع الثقة بالدولار وبالقيادة الأميركية للعالم. وبدلاً من أن تحقّق هذه الآليات انضباطاً عالمياً خلف الإرادة الأميركية من قبل مجموعة دولٍ خائفة، بدا أن العكس هو الذي تحقّق. بحث الجميع (خارج أوروبا) عن خياراتٍ أكثر موثوقية وأماناً.
مرحلة جديدة من “الصراع على كل شيء”
هنا تدخّلت الصين، وهي تعلم أنها التالية على رادار الاستهداف الأميركي، تخلت بكين عن نهجها المتحفّظ في السياسة الخارجية، وبدأت بإدارة سياسةٍ نشطة هجومياً، لكن رصينة في مقاربتها للتدخلات، فتحوّلت من استقبال اللعب إلى المبادأة فيه. وخرجت بمبادرات سياسية واقتصادية خارجية واثقة، كان أولى نجاحاتها السياسية الكبرى الوساطة بين الجمهورية الإسلامية في إيران والمملكة العربية السعودية، حيث رعت اتفاق عودة العلاقات بين البلدين، وأمّنت ضماناً سياسياً له، يضاف إلى تطويرٍ متوازٍ ومتوازن للعلاقات مع كل منهما.
بذلك ربحت الصين إمداداتٍ طاقوية مستدامة من علاقاتها مع البلدين، ودوراً سياسياً جديداً لها في الشرق الأوسط. إنه نجاحٌ مدوٍ للسياسة الخارجية الصينية في واحدة من أعقد الملفات الإقليمية التي كانت لها تفاعلاتٌ كبيرة في الإقليم. أظهرت الصين قدرةً مستجدة على الوساطة السياسية الفاعلة في مرحلة تحوّلٍ كبير، لا يمكن لقوة غير عالمية أن تحلّ مثل تلك التعقيدات. إنها الآن ضامنٌ سياسيٌ عالمي.
على المستوى الاقتصادي والمالي، تشير التطورات الملحوظة خصوصاً في تصريحات المسؤولين الروس والصينيين على حدٍ سواء، إلى أن الدولتين تتحديان الدولار بصورةٍ علنية ومباشرة. الهدف هو القضاء على هيمنة الدولار على عملات الاحتياط العالمية وعلى التجارة الدولية، خصوصاً في أسواق الطاقة. النجاح في هذه المهمة سوف يعني تغيّراً تاريخياً حاسماً في ديناميات العلاقات الاقتصادية الدولية.
الآن تهتز قوة الدولار على وقع تفاعلات أخرى أيضاً، ترتبط من ناحية بتسارع الشراكات العالمية التي تعتمد العملات المحلية في تبادلاتها، ومن ناحية أخرى بالأزمات الاقتصادية والمالية في الاقتصاد الغربي نفسه، والحاجة المستمرة إلى التيسير الكمي وطباعة المزيد من النقود للهروب من الركود الاقتصادي وتغطية انهيار البنوك التي تنذر بمخاطر كبرى على النظام المالي.
يحدث ذلك في ظل أزمة تضخّم نشطة في الاقتصادات الغربية، وأزمة مديونية تطلّ برأسها، في حين تعاني البنوك المركزية في محاولاتها للموازنة من جهة بين المخاطرة بالركود والاعتراف بالأزمة المالية، وهو ما سوف يقود إلى المزيد من الانهيارات، ومن جهة أخرى إلى المخاطرة بفقدان السيطرة على التضخم. في ظل كل ذلك، تطرح الصين على الدول الأخرى التي تراقب ما يجري في الغرب خياراتٍ أخرى مختلفة، شراكات عادلة مستدامة ومضمونة.
في مواجهة ذلك، تعلن الصين انطلاق معركة كسر هيمنة الدولار، ومن أجل ذلك أقامت الشراكات الطاقوية مع روسيا والخليج وإيران وغيرها من القوى. تتبادل بالعملات المحلية، وتنشئ مساراتٍ تنموية مشتركة مع كل دولة على حدة، وضمن التكتلات. “بركس”، الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، منظمة شنغهاي… أكثر من ذلك، تتفق مع روسيا على تطوير قطاعات التكنولوجيا والمعلومات في البلدين، وتنشئان معاً ثنائياً رابحاً في أفريقيا، حيث توسّعان شراكاتهما في قارة المواد الأولية والبشرية المستغلة تاريخياً.
إنها الآن ضامنٌ اقتصادي عالمي لشراكاتٍ مستدامة، وتريد لعملتها أن تكون ضامنةً للقيمة، عوضاً عن الدولار، في حين تمتص الذهب من الأسواق العالمية.
في موازاة ذلك، تبني الصين قوّتها البحرية العالمية، كما أعلنت، وهي من أجل ذلك تحتاج إلى سنوات قليلة. هذه السنوات ستكون خطرةً جداً على مشروعها، لكن هنا بالتحديد تبرز القيمة المضافة للقوة الروسية، وسيحمي التعاون الروسي الصيني المشروع الكبير المشترك. حرب أوكرانيا مفصل في هذا السياق، إذا خسرت روسيا سيكون تدمير الصين من الباب العسكري تحديداً. حيث لا تستطيع أن تكون ضامناً أمنياً عالمياً، كما تحاول أن تفعل في الاقتصاد والسياسة.
روسيا لديها تجارب في هذا السياق، نجحت في سوريا، نجحت في أفريقيا بالتحوّل إلى ضامن أمني في دول عديدة، وأخرجت فرنسا من هناك. تقف في مواجهة الغرب كله في أوكرانيا، ولا يبدو أن خسارتها ممكنة. أما إذا تمكنت من تحقيق نصر صريح فإن شراكتها مع بكين تكون قد حقّقت ثلاثية الضمانات الذهبية التي يمكن للقوة القائدة للعالم أن تحوزها.
تغيير كبير يحدث
الآن، في مهمتها التالية، تطرح الصين أساساً للحل السياسي للأزمة الأوكرانية. هي تعرف التعقيدات المرتبطة بذلك، وتدرك جيداً أن اللاعبين هنا ليسوا متشابهين معهم في الحالة السعودية-الإيرانية. بل إن الصراع هنا مختلف تماماً، إنه صراع القوى العالمية على كل شيء. فهل تراهن بكين على النجاح في تحقيق هذه الوساطة وتحويلها إلى حلٍ قابلٍ للحياة؟
تدرك بكين جيداً صعوبة المهمة، لكنها في الوقت نفسه، وبمجرد الشروع بها، فإنها تحقّق جزءاً من غاياتها. إنها بتلقائية تمارس دور القوة السياسية العالمية ثانيةً. وتالياً فإنها تطرح نفسها وسيطاً محايداً، ما يجعلها مباشرةً خارج دائرة العزل الأميركية، وخارج التصنيف بأنها منحازةٌ إلى روسيا.
حسناً، لكن الغرب شكّك مباشرةً بحيادية الصين، وقال وزير الخارجية الأميركية أنتوني بلينكن إن الدور الصيني ليس سوى تكتيك يعطي الفرصة للروس بأن يكسبوا الوقت، وأن يحقّقوا نهايات غير عادلة للحرب. لكن مع ذلك، وإن لم يصدّق الغرب حيادية الصين، فإن هذا الدور الجديد يعطي أسباباً للدول الأخرى في العالم لتتعاطى مع بكين على أساسه.
تالياً حين تضع الولايات المتحدة الدول أمام خيار عزل الصين أو مواجهة التداعيات، فإن الكثير منها ستتذرّع بهذا الدور. إن الصين وسيط وشريك تجاري أوّل لأكثر من 130 دولة، لا يمكن عزلها ببساطة. ستخسر الدول بذلك استثمارات وشراكات هائلة القيمة، وسيرتفع سعر كل شيء في الدولة التي ستتخلى عن شراكتها مع بكين من أجل إرضاء واشنطن.
في المحصّلة، أرادت واشنطن أخذ موسكو وبكين فرادى، وتقطيع أوصال الشراكات العالمية المتنامية خارج السيطرة الأميركية، لكن ما يحدث الآن مختلفٌ تماماً، وبوضوحٍ تام. ولد عالم آخر خارج “المجتمع الدولي” التقليدي الذي يتحدث باسمه البيت الأبيض، عالمٌ بقيادة صينية مفترضة، لكن غير ممارَسة، تسعى دوله إلى طرح صيغةٍ جديدة للعلاقات الدولية، تقول بكين إنها قائمة على العدالة في الشراكات، والمصالح والثقة المتبادلتين.
عالمٌ منفتحٌ على شركاء جدد، ويتحرك بثقة ليبدأ باستقطاب الدولة النازحة من هيمنة الدولار والقواعد العسكرية وحاملات الطائرات. لخّص الرئيس الصيني هذا المسار بما نقل عنه أثناء وداعه نظيره الروسي: “إن تغييراً لم يحدث منذ 100 عام يجري حالياً، ونقود معاً هذا التغيير”.
سيرياهوم نيوز3 – الميادين